عناصر الخطبة
1/ دعوة عمر بن الخطاب 2/ أول عمليَّةٍ انتحاريَّةٍ في المسجدِ عرفَها التَّاريخُ 3/ مكانة المساجد في الإسلام وأهميتها 4/ القتل في المسجدِ جريمةٌ عظيمةٌ 5/ إذا فقدنا الأمن في المساجد فأين نجده؟! 6/ التحذير من سُنة أبي لؤلؤة في المساجد.اقتباس
هلْ رأيتم يا عبادَ اللهِ .. أشلاءَ المُصلِّينَ كيفَ تمزَّقتْ؟! وهل رأيتُم المصاحفَ كيفَ تقطَّعتْ؟! وهل رأيتم بيوتَ اللهِ –تعالى- كيفَ دُنِّستْ؟! .. فبأيِّ جُرمٍ تلكَ الأرواحُ أُزهقتْ؟! .. وبأيِّ ذنبٍ تلكَ الأنفسُ قُتلتْ؟! فإذا كانَ قد نُهيَ عن قتلِ الرَّاهبِ الكافرِ في صومعتِه حالَ الحربِ .. فتحريمُ قتلِ المسلمِ في مسجدِه حالَ الأمنِ .. أشدُّ وأعظمُ وأجرمُ. متى كنَّا نسمعُ عن القتلِ في مساجدِنا .. فضلاً عن التَّفجيرِ وقتلِ العشراتِ!! متى كنَّا نحتاجُ إلى حمايةٍ في بيوتِ اللهِ؟!.. فإذا لم يأمنُ النَّاسُ في المساجدِ .. فأينَ يأمنونَ؟ .. وأينَ يُوجدُ الأمانَ .. إذا فُقِدَ من أماكنِ رفعِ الأذانِ. فانتبه .. يا من اتَّبعَ سُنَّةَ أبي لؤلؤةِ المجوسيِّ .. هذه بيوتِ اللهِ –تعالى- .. واللهُ -عزَّ وجلَّ- يغارُ على بيوتِه...
الخطبة الأولى:
إنَّ الْحَمْدَ لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ بالله مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.
(يَا أَيُّهاَ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَاْلأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].
أَمَّا بَعْدُ .. فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيْثِ كِتَابُ الله، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَشَرَّ الْأُمُوْرِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ -رَحِمَهُ اللهُ-، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ قَالَ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي فِي الجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا القَصْرُ؟، قَالُوا: لِعُمَرَ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَهُ فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا" .. فَبَكَى عُمَرُ، وَقَالَ: أَعَلَيْكَ أَغَارُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
هذا الرَّجلُ المُبَشَّرُ بالجَنَّةِ .. كانَ يدعو بهذا الدُّعاءِ؛ يقولُ: "اللَّهمَّ ارزُقني شهادةً في سبيلِك، واجعل مَوتي في بَلدِ رسُولِك"، وكانتْ حفصةُ -رضيَ اللهُ عنها- تقولُ: وأَنَّى يكونُ ذلك؟ -أيْ: كَيفَ تُقْتَلُ في سَبيلِ اللهِ، وأنت في المدينةِ، ومواطنُ الجهادِ في سبيلِ اللهِ في العِراقِ وفي الشَّامِ -، قالَ: "يَأتِي بِهِ اللهُ إذا شَاءَ".
وفي يومِ الجُمعةِ ودَّعَ النَّاسَ على المنبرِ فقالَ: "إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ دِيكًا أَحْمَرَ نَقَرَنِي ثَلَاثَ نَقَرَاتٍ, فَقَصَصْتُهَا عَلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ امْرَأَةِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-مَا, فَقَالَتْ: يَقْتُلُكَ رَجُلٌ مِنْ الْعَجَمِ، وَإِنِّي لَا أُرَاهُ إِلَّا حُضُورَ أَجَلِي".
وبعدَ أربعةِ أيَّامِ فقط .. في فَجرِ يَوْمِ الأَرْبِعَاءِ لأَرْبَعِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ تَمَامَ سَنَةِ ثَلاثٍ وَعِشْرِينَ .. كَمَنَ أبو لؤلؤةَ المجوسيُّ في المسجدِ، ومعه سكينٌ ذاتَ طرفَيْنِ مَسمومةٌ، فوقفَ عمرُ يُعدِّلُ الصُّفوفَ للصَّلاةِ، فلما كبَّرَ يُصلي بالنَّاسِ، طعنَهُ المُجرمُ في كتفهِ وفي خاصرتِه؛ فقالَ عمرُ: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا) .. ثم أخذَ المُجرمُ يَسعى، لا يمرُّ على أحدٍ يمينًا ولا شمالاً إلا طعنَه؛ حتى طعنَ ثلاثةَ عشرَ رجلاً، ماتَ منهم سبعةٌ، فلما رأى ذلكَ رجلٌ من المسلمين؛ طَرحَ عليه بُرْنُسًا، فلما ظنَّ العِلْجُ أنه مأخوذٌ؛ نَحَرَ نفسَه.
وتناولَ عمرُ يدَ عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ؛ فقدَّمَه للصَّلاةِ بالنَّاسِ، فصلَّى بهم صلاةً خفيفةً، وحُمِلَ عُمرُ إلى بيتِه وقدْ غلبَه النَزْفُ حتى غُشيَ عليه، فلمَّا أسفرَ الصُّبحُ استيقظَ فقالَ: "أَصَلَّى النَّاسُ؟، قالوا له: نعم .. قالَ: لا إسلامَ لمن تركَ الصَّلاةَ .. ثم توضَّأ وصلَّى .. ثُمَّ قَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ انْظُرْ مَنْ قَتَلَنِي، فَجَالَ سَاعَةً ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: غُلَامُ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: الصَّنَعُ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قَاتَلَهُ اللَّهُ لَقَدْ أَمَرْتُ بِهِ مَعْرُوفًا، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ مِيتَتِي بِيَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ".
وهكذا استجابَ اللهُ لدعاءِ عمرَ بنِ الخطَّابِ -رضيَ اللهُ عنه-.. وحقَّقَ أمنيتَه .. فماتَ شهيداً في محرابِ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-.. وهو قائمٌ يصلي .. في صلاةِ الفجرِ .. فما أجملَ حُسنَ الخاتمةِ.
عبادَ اللهِ ..
تلكَ كانتْ أولُ عمليَّةٍ انتحاريَّةٍ في المسجدِ عرفَها التَّاريخُ .. انتحرَ فيها ذلك المَجوسيُّ الخبيثُ بعدَ أن قتلَ ثمانيةً من خيرةِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ الكِرامِ .. منهم رجلٌ مَشهودٌ له بالجنَّةِ .. الخليفةُ الثَّاني عمرُ بنُ الخطَّابِ -رضيَ اللهُ عنه-.
إنَّ القتلَ في المسجدِ جريمةٌ عظيمةٌ .. تُنتهكُ فيها حُرماتٌ .. في ظلماتٍ فوقَها ظلماتٌ:
فكيفَ يسترخصُ هؤلاءِ حُرمةَ بيوتِ اللهِ –تعالى-، وأحبَّ البِقاعِ إليه .. قالَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "أَحَبّ الْبِقَاعِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا".
تلكَ المساجدُ التي أمرَ اللهُ –تعالى- ببِنائها وليسَ هدمَها .. ورتَّبَ على ذلكَ الأجرَ العظيمَ .. عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ بَنَى ِللهِ مَسْجِدًا، صَغِيرًا كَانَ، أَوْ كَبِيرًا، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ".
وعِمارتُها الحسيَّةُ بالبناءِ والمعنويَّةُ بالعبادةِ هو علامةُ إيمانِ العبدِ، كما قالَ تعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة: 18].
أهلُها .. هم من مدحَهم اللهِ –سبحانَه- وأثنى عليهم .. (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) [النور: 36].
هي بيوتُ الأتقياءِ .. كما قالَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "الْمَسْجِدُ بَيتُ كُلِّ تَقِيٍّ" .. الذينَ هم أحبابُ اللهِ -عزَّ وجلَّ- فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبّ الْمُتَّقِينَ .. فهلْ يُعقلُ أن يُقتلَ أحبابُ اللهِ في بيتِه وبيوتِهم؟!
حتى في الذَّهابِ إليها أجرٌ عظيمٌ .. فعنْ أبي هريرةَ -رضيَ اللهُ عنه-، عن النَّبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- قالَ: "من توضأَ فأحسنَ الوُضوءَ، ثم خَرجَ عامداً إلى الصَّلاةِ، فإنَّه في صلاةٍ ما كانَ يَعْمِدُ إلى صَلاةٍ، وإنَّه يُكتَبُ له بإحدى خُطوتيه حسنةٌ، ويُمْحَى عنه بالأخرى سيئةٌ، فإذا سمعَ أحدُكم الإقامةَ فلا يَسْعَ، فإن أعظمَكم أجراً أبعدُكم داراً، قالوا: لِمَ يا أبا هريرةَ؟، قالَ: من أجلِ كَثرةِ الخُطَا".
الذَّاهبُ إليها ضيفٌ من ضيوفِ الرَّحمنِ .. يقولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، إِلا كَانَ زَائِرَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَحَقٌّ عَلَى الْمَزُورِ أَنْ يُكْرِمَ زَائِرَهُ" .. فيا ويلَ من قتلَ زوَّارَ اللهِ تعالى الذينَ يُكرمُهم.
أُمرنا بتنظيفِها والعنايةِ بها .. عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- أَنْ نَتَّخِذَ الْمَسَاجِدَ فِي دِيَارِنَا، وَأَمَرَنَا أَنْ نُنَظِّفَهَا" .. وقالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "عُرِضَتْ عَلَىَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي، حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا، الأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِئِ أَعْمَالِهَا، النُّخَاعَةَ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ لاَ تُدْفَنُ" .. فإذا كانَ البُصاقُ خطيئةً فكيفَ بتناثرِ الدِّماءِ .. وتطايُرِ الأشلاءِ.
ومن أشاعَ الخوفَ في المساجدِ .. فامتنعَ النَّاسُ عن القدومِ إليها للصَّلاةِ .. فإنه داخلٌ في قولِه تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [البقرة: 114].
يا أهلَ الإيمانِ .. من يجرؤ على أن يَقتلَ مؤمناً متعمِّداً وهو يتلو في كتابِ اللهِ تعالى .. (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) [النساء: 93].
وكيفَ يستبيحُ أحدٌ دمَ مسلمٍ .. وهو يسمعُ قولَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمْ اللَّهُ فِي النَّارِ".
هل رأيتُم جلالَ الكعبةِ وجمالَها .. ألا تستشعرونَ عظمتَها ومكانتَها .. عن عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ, وَيَقُولُ: "مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ, مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ, وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ, لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ مَالِهِ وَدَمِهِ وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا".
بل ذهابُ الكونِ .. وانقطاعُ الحياةِ .. أهونُ على اللهِ من دمِ رجلٍ مسلمٍ واحدٍ .. قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ" .. فكيفَ بمُسلمينَ .. وكيفَ بمصلِّينَ؟!
فإياكَ ثمَّ إياكَ بالولوغِ في دماءِ المُسلمينَ .. فإنه "لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَاماً" .. وجاءَ عَن النَّبِيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- أَنَّهُ قَالَ: "يَجِيءُ الْمَقْتُولُ بِالْقَاتِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَاصِيَتُهُ وَرَأْسُهُ بِيَدِهِ وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمًا، يَقُولُ: يَا رَبِّ هَذَا قَتَلَنِي، حَتَّى يُدْنِيَهُ مِنْ الْعَرْشِ".
وتذكرُّوا قولَ نبيِّكم -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- في يومِ النَّحرِ .. في شهرِ الحجِّ .. في مكةَ: "فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا".
وعن ابْنِ مَسْعُودٍ -رضيَ اللهُ عنه- قالَ: قالَ رسُولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أنْ لاَ إله إلاّ الله وأَنِّي رَسُولُ الله إلاّ بإحْدَى ثَلاَثٍ: الثَّيِّبُ الزَّاني، وَالنَّفْسُ بالنّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِيِنِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَماعَةِ".
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَاكُم بِمَا فِيهِ مِن الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ .. أَقُولُ قَولِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِكَافَةِ المُسْلَمَين مَن كُلِ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي جعلَ المساجدَ بيوتَه التي أَذنَ أن تُرفعَ ويُذكرَ فيها اسمُه يُسبِّحُ له فيها بالغدوِّ والآصالِ رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكرِ اللهِ وصالحِ الأعمالِ، وأشهدُ إلا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، إلهٌ انفردَ بالعظمةِ والعِزَّةِ والجَلالِ، وأشهدُ أن محمَّداً عبدُه ورسولُه حثَّ على بناءِ المساجدِ وتطهيرِها من الشِّركِ وعقائدِ الضَّلالِ .. وصلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وسلمَّ تسليماً يتجددانِ تجددِ الغدوِّ والآصالِ ..
أما بعد: هلْ رأيتم يا عبادَ اللهِ .. أشلاءَ المُصلِّينَ كيفَ تمزَّقتْ؟! وهل رأيتُم المصاحفَ كيفَ تقطَّعتْ؟! وهل رأيتم بيوتَ اللهِ –تعالى- كيفَ دُنِّستْ؟! .. فبأيِّ جُرمٍ تلكَ الأرواحُ أُزهقتْ؟! .. وبأيِّ ذنبٍ تلكَ الأنفسُ قُتلتْ؟! فإذا كانَ قد نُهيَ عن قتلِ الرَّاهبِ الكافرِ في صومعتِه حالَ الحربِ .. فتحريمُ قتلِ المسلمِ في مسجدِه حالَ الأمنِ .. أشدُّ وأعظمُ وأجرمُ.
متى كنَّا نسمعُ عن القتلِ في مساجدِنا .. فضلاً عن التَّفجيرِ وقتلِ العشراتِ!! متى كنَّا نحتاجُ إلى حمايةٍ في بيوتِ اللهِ؟!.. فإذا لم يأمنُ النَّاسُ في المساجدِ .. فأينَ يأمنونَ؟ .. وأينَ يُوجدُ الأمانَ .. إذا فُقِدَ من أماكنِ رفعِ الأذانِ.
فانتبه .. يا من اتَّبعَ سُنَّةَ أبي لؤلؤةِ المجوسيِّ .. هذه بيوتِ اللهِ –تعالى- .. واللهُ -عزَّ وجلَّ- يغارُ على بيوتِه .. وهذه أرواحُ المسلمينَ المُصلِّينَ .. أحبابِ اللهِ .. أتوه في بيتِه ضيوفاً وزائرينَ .. وتَدعو لهم الملائكةُ المُكرَّمينَ .. عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- قَالَ: "ثَلاَثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-" وذكر منهم:" وَرَجُلٌ رَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ".
أيُّها الأحبابُ .. كلُّنا سنموتُ .. فهنيئاً لمن ماتَ مظلوماً في بيتٍ من بيوتِ اللهِ –تعالى- .. وهو في ضمانِ اللهِ .. يؤدي فريضتَه .. قد أجابَ نِداءَ الفلاحِ .. وأقبلَ يرجو ما عندَ اللهِ من النَّجاحِ .. فطوبى ثمَّ طوبى لتلكَ الأرواحِ.
اللهم اغفر لرجالِ أمنِنا وارحمهم وتقبَّلَهم في الشُّهداءِ .. اللهم جازِهم بالحسناتِ إحساناً .. وبالسيِّئاتِ عفواً وغفراناً .. اللهم اجزِ الأحياءَ منهم عنا خيرَ الجزاءِ .. وأفرغ عليهم الصَّبرَ والعطاءَ .. واحفظهم من بين أيديهم ومن بين أيديهم ومن خلفِهم ومن عن أيمانِهم وعن شمائلِهم ومن فوقِهم ونعوذُ بعظمتِهم أن يُغتالوا من تحتِهم ..
اللهمَّ اهدِ ضالَّ المسلمينَ، اللهمَّ إنَّا نعوذُ بك من الفتنِ ما ظهرَ منها وما بطنَ، اللهم أصلحْ ذاتَ بيننا وألِّفْ بين قلوبِنا وأهدِنا سُبلَ السَّلامِ وأخرجْنا من الظُّلماتِ إلى النَّورِ، اللهم آمنَّا في الأوطانِ والدُّورِ، واصرف عنَّا الفِتنَ والشُّرورَ.
اللهمَّ آتِ نفوسَنا تقواها زكِّها أنتَ خيرُ من زكَّاها أنت وليُّها ومولاها، اللهم إنا نسألُك الهُدى والسَّدادَ، اللهمَّ وفِّقْ وليَ أمرِنا لما تحبُ وترضَى وأعنْه على البِرِّ والتَّقوى وسدِّده في أقوالِه وأعمالِه، وألبسْه ثُوبَ الصِّحةِ والعافيةِ يا ذا الجَلالِ والإكرامِ، وارزقْه البِطانةَ النَّاصحةَ الصَّالحةَ يا حيُّ يا قَيومُ، اللهمَّ وَفِّقْ جميعَ وِلاةِ أُمورِ المُسلمينَ للعملِ بكتابِك واتِّباعِ سُنَّةِ نبيِّك محمدٍ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، واجعلهم رحمةً ورأفةً على عبادِك المؤمنينَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم