اقتباس
وهذا نداء نبعث به إلى من يشتري "اليخوت" والقصور والملبوسات والأثاث بالآلاف وبالملايين، وإلى من ينفق ثروة في ليلة لمجرد حفل يقيمه، وإلى من يلقي بالطعام إلى القمامة بعد كل وجبة... أقول: والله لو كان الترف والإسراف والتبذير حلالًا لما ساغ لكم ما تفعلون وهذه البطون الجائعة تستغيث، وهذه الأجساد العارية تستنجد...
نِعم الله -عز وجل- كثيرة لا تُعد ولا تحصى، وقد قرر الله -تعالى- ذلك في قوله: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)[إبراهيم: 34]، لكنه -سبحانه- قال بعدها مباشرة: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)... فهو ظلوم كفار يظلم النعمة بكفرانها وعدم شكرها ويظلم نفسه حين يكفر النعمة فيعرضها للزوال... ومن جملة ظلم النعمة أن يسرف فيها ويبذرها ويضعها في غير موضعها، ومن أشكال ظلمه لنفسه أن يعيش متنعمًا مترفًا همه دنياه.
وهناك علاقة وطيدة بين هذه الآفات الثلاثة، فأما الإسراف فهو مجاوزة الحد في كل شيء، واستخدامه في إهدار المال أشهر -كما قاله الراغب- وفي التنزيل الحكيم: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف: 31]، أما أهل الحديث -كما نقله ابن الأثير- فقالوا: الغالب على ذكر الإسراف: هو الإكثار من الذنوب والخطايا والأوزار والآثام، يقول -تعالى-: (قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر: 53].
والتبذير: هو وضع المال في غير موضعه، وقيل: هو أخذ المال من حقه ووضعه في غير حقه، وقال الكفوي: الإسراف: هو صرف فيما لا ينبغي زائدًا على ما ينبغي، أما التبذير فإنه صرف الشيء فيما لا ينبغي... وأيضًا فإن الإسراف تجاوز في الكمية إذ هو جهل بمقادير الحقوق، والتبذير تجاوز في موضع الحق، إذ هو جهل بمواقع تلك الحقوق.
وعلي ذلك فإن الإسراف أعم من التبذير؛ فالإسراف يكون في المال وغيره، والتبذير لا يكون إلا في الأموال خاصة... لكن عددًا من المفسرين ذهبوا إلى أن الإسراف والتبذير يستخدمان بمعنى واحد فيطلق أحدهما ويراد الآخر.
أما الترف فهو النتيجة الطبيعية للإسراف والتبذير، فالترف هو التنعم، يقول ابن منظور في لسان العرب: "الترف: التنعم، والترفة: النعمة، والتتريف: حسن الغذاء، وصبي مترف: إذا كان منعم البدن مدللًا، والمترف: الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش، وأترفته النعمة: أي أطغته... ورجل مترف ومترف: موسع عليه، وترف الرجل وأترفه: دلله وملكه... والتُرفة بالضم: الطعام الطيب"، وفي القرآن: (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ)[هود: 116].
***
ولقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هذا التنعم، فعن معاذ بن جبل: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما بعث به إلى اليمن قال: "إياك والتنعم؛ فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين"(رواه أحمد)، أي: إياك والتعمق والمبالغة في التنعم؛ فإن خواص عباد الله الذين تحلوا بشرف العبودية ليسوا بالمتنعمين، والسبب في ذلك: أن التنعم بالمباح -وإن كان جائزًا- لكنه يوجب الإنس به والغفلة عن ذكر الله وكراهة لقائه... وهو أيضًا يدعو إلى الركون إلى الدنيا والاسترسال فيها، وقد يجر إلى الحرام؛ لأن الحلال في الأغلب لا يتسع للتنعم. (ينظر: التيسير، والتنوير، وكلاهما شرح للجامع الصغير).
أما على القاري فيرى أن التنعم هو: "المبالغة في تحصيل قضاء الشهوة على وجه التكلف في البغية بتكثير النعمة، والحرص على النهمة... بل التنعم مختص بالكافرين والفاجرين والغافلين والجاهلين، كما قال تعالى: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)[الحجر: 3] وقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ)[محمد: 12](ينظر: مرقاة المفاتيح).
***
وهذه الآفات الثلاثة؛ الترف والإسراف والتبذير تحمل في طياتها كل شر وهلاك وبوار في الدنيا والآخرة، فالترف إذا انتشر في مجتمع ما أعقبه -لا محالة- الفسوق والعصيان، ثم كان التدمير والإهلاك نتيجة كونية ربانية، يقول -تعالى-: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)[الإسراء: 16].
وأول مسوغات تعذيبهم في جهنم يوم القيامة أنهم كانوا في دنياهم منغمسين في الترف: (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ)[الواقعة: 41-45].
والمسرفون المترفون هم قادة كل تمرد على أوامر الله وعلى تعاليم الرسل -عليهم السلام-، يقول -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)[سبأ: 34]، وهاك تمرد آخر منهم: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)[الزخرف: 23].
***
وهذا نداء نبعث به إلى من يشتري "اليخوت" والقصور والملبوسات والأثاث بالآلاف وبالملايين، وإلى من ينفق ثروة في ليلة واحدة لمجرد حفل يقيمه، وإلى من يلقي بالطعام إلى القمامة بعد كل وجبة... أقول: والله لو كان الترف والإسراف والتبذير حلالًا لما ساغ لكم ما تفعلون وهذه البطون الجائعة تستغيث، وهذه الأجساد العارية تستنجد، وهذا الأسر الملقاة في الصحراء بلا مأوى تستجدي!! انظروا إلى المشردين العرايا الجائعين المحرومين!! ألا ترونهم! ألا تحسون بهم!
ألا أفيقوا أيها المسرفون المترفون فإن ما أنتم فيه من نعمة إنما هو ابتلاء وامتحان واختبار لكم من الله -تعالى-: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ)[التغابن: 15]، بل إن التوسعة على العبد مع عصانه لعلامة وأمارة أن الله يستدرجه -والعياذ بالله- فعن عقبة بن عامر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا رأيت الله -عز وجل- يعطي العبد من الدنيا، على معاصيه ما يحب فإنه استدراج، ثم تلا قول الله -عز وجل-: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)[الأنعام: 44]"(رواه أحمد في الزهد وفي المسند).
وعن ابن عباس في قوله -عز وجل-: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ)[القلم: 44]؛ قال: كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة وأنسيانهم الاستغفار(المجالسة، للدينوري)، وقال فيها سفيان الثوري: "كلما أخطؤوا خطيئة أنعمنا عليهم نعمة وأنسيناهم الاستغفار"(المخلصيات).
ومساهمة منا في ملتقى الخطباء في إيقاظ وتنبيه الغافلين، ورد وتعليم المسرفين، نقدم هذا الملف العلمي، سائلين الله أن يهدي وينفع به.
التعليقات