ترك بعض المباحات تعويدا للنفس على الصبر

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-07 - 1444/03/11

اقتباس

ترك بعض المباحات تعويدا للنفس على الصبر

 

د. خالد بن محمد الشهري

 

من أنفع الوسائل لعلاج النفس وتربيتها للتخفيف من تطلعها لما عند الآخرين أن يمنعها الإنسان عن بعض ما تشتهيه من المباحات تدريباً لها على الصبر وكبح جماحها حتى لا يجرها التكثر من المباحات حتى يوقعها في المحرمات.

 

وهذا يذكرنا بما روي عن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: (إن استطعت أن تدع مما أحلّ الله لك ما يكون حاجزاً بينك وبين ما حرم الله عليك فافعل فإنه من استوعب الحلال كله تاقت نفسه إلى الحرام )[1].

 

ومما ورد في سيرة الفاروق رضي الله عنه أنه رأى صحابياً من السابقين قد اشترى لحماً من السوق فسأله عنه فقال يا أمير المؤمنين لحماً اشتهيته فاشتريته. فقال عمر: أوكلما اشتهيت اشتريت؟ ما تخاف الآية: ﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا ﴾[2]؟.

 

وما كان عمر رضي الله عنه يرى أن هذا حراماً لكنه قد تربى مع صاحبه هذا على عدم تعجل طيباتهم في الحياة الدنيا فأراد أن يُذكر أخاه بما تربيا عليه في مدرسة النبوة من الرضا بالميسور والصبر على شظف العيش تثقيلاً لموازينهم في الآخرة، يشهد لذلك ما ورد في سيرته أنه جلس ذات مرة مع الصحابة بعد الفتوحات وقد قدمت لهم مائدة ذات طعام خشن فلما لاموه على ذلك مع كثرة الأموال بعد الفتوحات قال لكني سمعت الله جل ثناؤه عيّر قوماً بأمر فعلوه فقال: ﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ﴾[الأحقاف: 20][3].فقد كان ديدنه هو وصحابة رسول الله أن يؤخروا الاستمتاع بشهواتهم إلى الآخرة.

 

وروي عن أبي الدرداء أنه زاره بعض الناس في بيته فلما رأى قلة متاعه وأثاثه قال له: (إن لنا داراً ننتقل إليها قدمنا فرشنا ولحفنا إليها) يعني أنهم يتصدقون بكل ما يجدون ازدياداً من حظهم في الآخرة.[4]

 

قال ابن القيم رحمه الله: (أكمل الناس لذةً من جُمع له بين لذة القلب والروح ولذة البدن فهو يتناول لذاته المباحة على وجه لا ينقصُ حظه من الدار الآخرة... وأبخسهم حظاً من اللذة من تناولها على وجه يحول بينه وبين لذات الآخرة فيكون ممن يُقالُ لهم يوم استيفاء اللذات (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) فهؤلاء تمتعوا بالطيبات وأولئك تمتعوا بالطيبات، وافترقوا في وجه التمتع، فأولئك تمتعوا بها على الوجه الذي أُذن لهم فيه، فجُمع لهم بين لذة الدنيا والآخرة، وهؤلاء تمتعوا بها على الوجه الذي دعاهم إليه الهوى والشهوة وسواءٌ أُذن لهم فيه أم لا فانقطعت عنهم لذة الدنيا وفاتتهم لذة الآخرة، فلا لذة الدنيا ولا لذة الآخرة حصلت لهم.

 

فمن أحبّ اللذة ودوامها والعيش الطيب فليجعل لذة الدنيا موصلاً له إلى لذة الآخرة بأن يستعين بها على فراغ قلبه لله وإرادتِه وعبادتِه، فيتناولها بحكم الاستعانة والقوة على طلبه، لا بحكم مجرد الشهوة والهوى، وإن كان ممن زويت عنه لذات الدنيا وطيباتها فليجعل ما نقص منها زيادةً في لذة الآخرة، ويُجمَّ نفسه ههنا بالتركِ ليستوفيها كاملة هناك...)[5].

 

[1] البيان والتبيين ص 496.

 

[2] أخبار عمر للطنطاوي ص 280.

 

[3] أخبار عمر للطنطاوي ص 280.

 

[4] انظر صفة الصفوة. وقد روي عن الإمام أحمد بن حنبل - وهو من أشدّ أهل زمانه إتباعًا للسنة - أنه لامه بعضهم في زهده و طريقة عيشه فقال له: طعام دون طعام ولباس دون لباس حتى نلاقي ربنا.أي نكتفي بالقليل دون الكثير حتى نلاقي ربنا.

 

[5] الفوائد لابن القيم.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات