النظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-11 - 1444/03/15

اقتباس

النظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين

 

د. خالد بن محمد الشهري

 

وسائل لعلاج الترف

النظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين

وتغيير البيئة، والإقلاع عن الشهوات المحرمة

 

• النظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين:

 

قال الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].

 

وقال عز من قائل: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31].

 

وكلما نظر الإنسان في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وجد فيها العجب من زهده وتقلله من الدنيا، بما لا يدع مجالاً للشك في أن ذلك من سنته صلى الله عليه وسلم وهذا ما تبعه عليه أصحابه رضوان الله عليهم ثم التابعون لهم بإحسان إلى زماننا هذا.

 

والتقلل من الدنيا سنة ماضية ذكرنا طرفاً منها في الفصول السابقة، ويهمنا هنا الجانب العلاجي الذي يمكن أن يستفيده من أراد أن يتخلص من داء الترف فيكثر من مطالعة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين من بعده لينظر كيف زهدوا في حطام الدنيا وعلموا أنه لا يساوي عند الله جناح بعوضة فارتقت هممهم إلى الغاية السامية وهي رضوان الله والجنة فأعقبهم ذلك راحة في قلوبهم وهون عليهم الصبر على الشهوات و فقد الملذات حتى لقوا ربهم متخففين من الدنيا فأثابهم بذلك جنة وحريراً وأورثهم ملكاً كبيراً.

 

• تغيير البيئة:

 

ربما احتاج المترف عند اعتزال ترفه أن يهجر المكان الذي يعيش فيه وينتقل إلى غيره وربما احتاج إلى إجراء تعديلات على بيئته ليتمكن من التخلص من أضرار الترف، وقد يحتاج إلى اعتزال الأشخاص الذين كان يخالطهم ويعيش بينهم ليتمكن من الخلاص من حمأة الترف ولينجو من غائلته، وهذا مستفاد من حديث قاتل المائة الذي دله العالم على ترك قريته والذهاب إلى قرية أخرى وعلل ذلك بأن قريته قرية سوء لا تعينه على التوبة ودله على قرية أهلها صالحون يدلونه على الخير ويعينونه عليه.

 

يقول ابن الجوزي رجمه الله في هذا المعنى: (تأملت أمر الدنيا والآخرة فوجدت حوادث الدنيا حسّية طبعية، وحوادث الآخرة إيمانية يقينية، والحسيات أقوى جذبًا لمن لم يقو علمه ويقينه.

 

والحوادث إنما تبقى بكثرة أسبابها، فمخالطة الناس ورؤية المستحسنات والتعرض بالملذوذات يقوي حوادث الحس؛ والعزلة والفكر والنظر في العلم يقوي حوادث الآخرة.

 

ويبين هذا بأن الإنسان إذا خرج يمشي في الأسواق ويبصر زينة الدنيا ثم دخل المقابر فتفكر ورقّ قلبه فإنه يحس بين الحالتين فرقًا بينًا.

 

وسبب ذلك التعرض بأسباب الحوادث. فعليك بالعزلة والذكر والنظر في العلم، فإن العزلة حمية، والفكر والعلم أدوية، والدواء مع التخليط لا ينفع.

 

وقد تمكنت منك أخلاط المخالطة للخلق، والتخليط في الأفعال فليس لك دواء إلا ما وصفت لك.

 

فأما إذا خالطت الخلق وتعرضت للشهوات، ثم رمت صلاح القلب رمت الممتنع!)[1].

 

• الإقلاع عن الشهوات المحرمة:

 

لا يستطيع الإنسان أن يتعاطى الأدوية السابقة حتى يقلع عن الشهوات المحرمة لأنها تجعل على قلب الإنسان غشاوة تعميه عن إبصار مصالحه الدينية والأخروية، كما أن الوالغ في المحرمات لا ينفعه ما سبق أن ذكرناه من الصبر والتخفف من المباحات فضلاً عن أن كمال الإيمان والزهد لا يستطيعه من أدمن على المحرمات. فأول المراتب في العلاج ترك الشهوات المحرمة والاستعاضة عنها بما أباحه الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه.

 

• ولترك المحرمات فوائد عظيمة قال ابن القيم رحمه الله

 

[سبحان الله رب العالمين! لو لم يكن في ترك الذنوب والمعاصي إلا إقامة المروءة وصون العرض وحفظ الجاه وصيانة المال – الذي جعله الله قواماً لمصالح الدنيا والآخرة – ومحبة الخلق وجواز القول بينهم، وصلاح المعاش، وراحة البدن وقوة القلب، وطيب النفس ونعيم القلب وانشراح الصدر، والأمن من مخاوف الفساق والفجار، وقلة الهم والغم والحزن، وعز النفس عن احتمال الذل، وصون نور القلب أن تطفئه ظلمة المعصية، وحصول المخرج مما ضاق على الفساق والفجار، وتيسير الرزق عليه من حيث لا يحتسب، وتيسير ما عسر على أرباب الفسوق والمعاصي، وتسهيل الطاعات عليه، وتيسير العلم والثناء الحسن في الناس، وكثرة الدعاء له، والحلاوة التي يكتسبها وجهه، والمهابة التي تُلقى له في قلوب الناس، وانتصارُهم وحميتهم له إذا أوذي وظلم، وذبهم عن عرضه إذا اغتابه مغتاب، وسرعة إجابة دعائه، وزوال الوحشة التي بينه وبين الله، وقرب الملائكة منه، وبُعد شياطين الإنس والجن منه، وتنافس الناس على خدمته وقضاء حوائجه، وخطبتهم لمودته وصحبته، وعدم خوفه من الموت، بل يفرح به لقدومه على ربه ولقائه له ومصيره إليه، وصغر الدنيا في قلبه، وكبر الآخرة عنده، وحرصه على الملك الكبير، والفوز العظيم فيها، وذوق حلاوة الطاعة، ووجد حلاوة الإيمان، ودعاء حملة العرش ومن حوله من الملائكة له، وفرح الكاتبين به ودعاؤهم له كل وقت، والزيادة في عقله وفهمه وإيمانه ومعرفته، وحصول محبة الله له وإقباله عليه، وفرحه بتوبته، وهذا يجازيه بفرح وسرور لا نسبة له إلى فرحه وسروره بالمعصية بوجه من الوجوه. فهذه بعض آثار ترك المعاصي في الدنيا.

 

فإذا مات تلقته الملائكة بالبشرى من ربه بالجنة، وبأنه لا خوف عليه ولا حزن، وينتقل من سجن الدنيا وضيقها إلى روضة من رياض الجنة، ينعم فيها إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة كان الناس في الحر والعرق، وهو في ظل العرش فإذا انصرفوا من بين يدي الله أخذ به ذات اليمين مع أوليائه المتقين وحزبه المفلحين ﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الجمعة: 4]][2].

 

تبين فيما سبق معاني الترف في اللغة وفي كتاب الله عز وجل وأضراره، وبقي لنا أن نُذكر بأن تفشي الترف في عصرنا الراهن يعود بدرجة كبيرة إلى ما تعرضه وسائل الإعلام وما تقوم به من صياغة لأفكار الناس وإشاعة الأنماط الاستهلاكية، والإلقاء في رُوع المتلقين أنهم بحاجة شديدة لهذه الأنماط، وأنه لا قوام للحياة بدون إشباع الغرائز وتلقف كل جديد من الصناعات المادية و الصرعات السلوكية وما تنتجه دور الموضة والتركيز على أن التقدم والحضارة يعني اتباع الموضة، فتركض القطعان البشرية وراء دور الموضة وإفرازات الإعلام الشهواني المخطط له من قبل أتباع الشهوات، يؤزهم في ذلك شياطين الجن ومردة الأنس من اليهود والنصارى وأذنابهم من بني جلدتنا الذين يسيطرون على دور الإعلام وبيوت الموضة فتتلقف القطعان ما يلقى إليها من دون رويّة لموافقة ذلك لشهواتهم وسيطرة الدنيا عليهم وما جبلوا عليه من حب الدنيا فلايصحو أحدهم إلا بعد أن يجندل في قبره ولات حين مناص ولا يُستثنى من ذلك إلا من عصمه الله ووفقه لمعرفة غايته وسبب وجوده على هذه البسيطة

وما ذكرناه في الفصل السابق من وسائل علاجية موجهة للأفراد أما المجتمعات والأمم فلا يمكن أن تُعالج من الترف دون مساهمة جميع المؤسسات حكومية وأهلية من علماء وخطباء ومصلحـون اجتماعيـون ووسائل إعلام ودُور تعليـم بجميع أشكالها

ولا يمكن لشخص بمفرده أن يضع علاجاً شافياً بل لابد من قيام المؤسسات الحكومية ودور الأبحاث ومؤسسات التخطيط الاجتماعية بوضع برامج علاجية على المدى القريب والبعيد، والنتيجة المرجوة كما أنها في مصلحة الأفراد فهي كذلك في مصلحة المجتمعات والحكومات حيث تقل عوامل الفساد ويتحول المجتمع من مجتمع رخو مترهل وظيفته الاستهلاك دون إنتاج وهمه الشهوات التي إن فشت ظهر الفساد في البر والبحر وعانت منه المجتمعات الويل وجنت منه الحنظل والحصرم وزادت على إثر ذلك البطالة وتفشت المخدرات وتبع ذلك كثرة السرقات والتعديات والجرائم الجنائية بجميع أشكالها، ودور البغاء العلنية والسريّة[3]، وعندئذ تقع سنة الله التي خلت من قبل بالهلاك على هذه المجتمعات المدنسة التي لا يطهرها إلا البلاء والامتحان ونزول العذاب بجميع صوره وأشكاله من أوبئة وفوضى وتسلط الأعداء والكوارث الطبيعية والحروب العسكرية والخسائر الاقتصادية ومسخ الفطر والعقول والهيئات ثم يدعون فلا يستجاب لهم[4]، ولن يعفيهم من هذا العذاب كثرة المساجد ولا وجود صالحين بينهم فعن زينب بنت جحش رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه - وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها - فقالت زينب بنت جحش: فقلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث) متفق عليه

لا بد إذاً لمن أراد النجاة أن يقاوم هذا الخبث والفساد بما يستطيعه ولا يستسلمن ويقول ماذا عساي أن أكون في هذا الخضم الهائل، وهل أنا إلا ذرة في هذا العالم الذي نعيش فيه؟ وماذا عساي أن أفعل

أذكر مثل هذا فأقول لو لم تحفظ إلا نفسك وأهل بيتك وما يقع تحت يدك لكنت محسنا إنشاء الله فكيف بك لو قد أصلحت ما حولك من جيران وزملاء وأصدقاء وأقارب ممن تلقاهم صباح مساء فتكون بذلك سببا في نجاة مجتمعك من نزول العذاب ويرفع بذلك اسمك مع المصلحين الذين يصلحون ما أفسد الناس

وعودا على بدء أذكر بأن خلاصة العلاج الناجع والدواء الشافي تتركز في الإيمان فكلما عُني المصلحون بجانب الإيمان وبناءه في نفوس الأفراد وغرس شجرته في المجتمعات كلما كان التوفيق أقرب لمساعيهم لأن الإيمان يربط الناس بربهم ويذكرهم الدار الآخرة ويوقظهم من سنة الغفلة - والترف غفلة - فإذا وجد الإيمان انتفت وإذا ذبل الإيمان وضعف زادت الغفلة وفي شواهد القرآن الكريم والسنة المطهرة وسير السابقين أكبر دليل وأوثقه

لذا حُقّ على كل من وفقه الله وألهمه رشده أن يستنقذ نفسه ويتدارك من استطاع من أهله وإخوانه المسلمين ليردهم عن مواطن الهلكة والردى، وهذه الصفحات من هذا الباب أسأل الله أن ينفع بها من كتبها وقرأها وأنا سائل كل من قرأها ووجد فيها عيباً أن يدلني عليه وله مني أحسن الدعاء، ومن الله الأجر والثواب، والمؤمن مرآة أخيه

 

نسأل الله الكريم المنان الرحيم الرحمن أن يجنبنا وإخواننا وجميع المسلمين مقته وعذابه وأليم عقابه.

 

 

وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

 

[1] صيد الخاطر لابن الجوزي ص 45-46.

 

[2] الفوائد لابن القيم.

 

[3] يحدث كل ذلك كنتيجة لاتباع الشهوات المحرمة وحين يصبح ذلك الغالب على المجتمع.

 

[4] ونرجو أن تكون أمة محمد عليه الصلاة والسلام قد عصمت من هذا البلاء في عمومها كما جاء في الأثر: (لا تجتمع أمتي على ضلالة) وقد ذكر بعض العلماء أن الأمة الإسلامية في عمومها معصومة من الاجتماع على الفساد والباطل.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات