اقتباس
من وسائل علاج الترف: الإيمان
د. خالد بن محمد الشهري
الترف مرض نفسي خطير، ولكل مرضٍ علاج، يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذنه الله تعالى) رواه مسلم، ويتلخص علاج الترف الذي وصلت إليه من خلال التتبع في ما يلي:
• الإيمان:
إن أعظم دواء يُداوى به داء الترف هو الإيمان فإنه لم يخالط قلب مترفٍ إلا وشفاه من الترف وهو أعظم شفاء وذلك أن الترف إنما هو إتباع للشهوات وتوسع في الملذات نتيجة للغفلة عن الآخرة وعن الغاية التي خلق لها ابن آدم فتظلم حياته وقلبه حتى إذا أشرقت أنوار الإيمان والهداية غسلت أوضار الشهوات وبدلت مكان السيئات الحسنات. ولنا أكبر برهان في قصة إسلام مصعب بن عمير رضي الله عنه وتحول حاله من أنعم فتىً في قريش حتى كان يضرب بنعومته المثل في ذلك حتى إنهم ليعرفون الطريق التي مرّ فيها من ريح طيبه فلما أسلم تحول همه من إتباع الملذات وإشباع شهواته إلى غاية عظمى لا تقوم لها الدنيا بأجمعها وهي إرضاء الله عز وجل حتى خرج من الدنيا كلها وترك لذاتها من أجل دينه وبينما كان ذلك الشاب الطرير الذي يبدل ثيابه في كل يوم مرات إذا به يموت في سبيل ربه شهيداً في أحد ولم يجدوا له ما يكفنوه به إلا شملةً قصيرة إن غطوا بها رأسه بدت رجلاه وإن غطوا بها رجلاه بدا رأسه، لكنه مضى راضياً مرضياً عليه بإذن ربه تعالى، قال عز من قائل: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 23].
وهذا عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى[1] - خامس الخلفاء الراشدين بحق - الذي كان يضرب في تنعمه المثل وقد جاء في وصفه أيام شبابه أنه أبيض ممتلئ فلما تولى الخلافة قال واصفه: صار شاحباً - لقلة أكله - يُحدث عنه رياح بن عبيدة أنه أرسله في شبابه ليشتري له ثيابا من خزٍ- نوع من الحرير - فلما لبسها قال يا رياح ما أجود ثوبيك لولا خشونة فيهما؛ فلما كان بعد تزهده أرسله ليجلب له جباباً هروية - ثياب خشنة - فلما لمسها قال: يا رياح ما أحسن ثوبيك لولا لين فيهما. وكان لشدة تأنقه وإنفاقه على زينته في شبابه مع علمه وفضله يقول: (لقد خفت أن يعجز ما قسم الله لي عن كسوتي، وما لبست ثوباً قط فرآه الناس عليَّ إلا خُيّل لي أنه قد بلي).
ولما تولى الخلافة صعد ذات يوم المنبر وعليه ثياب خشنة فقال له رجل: يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قد أعطاك فلو لبست؟ فسكت قليلاً ثم قال: (إن أفضل القصد عند الجِدَة، وأفضل العفو عند المقدرة).
وما زال هذا شأنه تديناً وتعبداً حتى اشتهر به، حتى إنه لما مات وهو خليفة المسلمين لم يكن لديه إلا ثوب واحد، وضرب بزهده المثل وأُلحق بالخلفاء الراشدين لتشبهه بهم رحمه الله ورضي عنه.
قال رجل لمالك بن دينار: (أيها الزاهد، فقال مالك: أنا يقال لي زاهد وماذا صنعت؟ ليقال لي زاهد! إنما الزاهد عمر بن عبدالعزيز أتته الدنيا راغبة فتركها!).
والأمثلة على فعل الإيمان في قلوب المترفين كثيرة جداً لا تحصى. قال ابن القيم رحمه الله:
(وأما العلائق فهي كل ما تعلق به القلب دون الله ورسوله، من ملاذ الدنيا وشهواتها ورياستها وصحبة الناس والتعلق بهم ولا سبيل له إلى قطع هذه الأمور الثلاثة ورفضها إلا بقوة التعلق بالمطلب الأعلى، وإلا فقطعها عليه بدون تعلقه بمطلوبه ممتنع، فإن النفس لا تترك مألوفها ومحبوبها إلا لمحبوب هو أحبُّ إليها منه، وآثر عندها منه، وكلما قوي تعلقه بمطلوبه ضعف تعلقه بغيره، وكذا بالعكس.
والتعلق بالمطلوب هو شدة الرغبة فيه، وذلك على قدر معرفته به وشرفه وفضله على ما سواه )[2].
والإيمان هو تعلق القلب بالله عز وجل ويقوى ذلك شيئاً فشيئاً حتى تخرج من القلب الشهوات والملذات كلها حتى إذا اكتمل إيمانه يصبح لا يلتذ إلا بالإيمان بالله عز وجل وطاعته فيترك الشهوات كلها لله.
و( ترك الشهوات لله - وإن أنجى من عذاب الله وأوجب الفوز برحمته - فذخائر الله وكنوز البر ولذة الأنس والشوق إليه والفرح والابتهاج به لا تحصل في قلب فيه غيره.. فإن الله أبى أن يجعل ذخائره في قلب فيه سواه )[3].
[1] انظر سيرة عمر بن عبدالعزيز لابن الجوزي.
[2] الفوائد بتصرف.
[3] الفوائد بتصرف.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم