المترفون هلاك للمجتمعات وضياع للقيم

حسان أحمد العماري

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ شعور مجتمع الصحابة بعضه ببعض 2/ تسألون يوم القيامة عن النعيم 3/ التحذير من أن يعيش المرء لنفسه فقط 4/ أثر منع الخير على المجتمع 5/ خطورة الترف على الأفراد والمجتمعات 6/ الآثار المدمرة لظهور الترف في المجتمع

اقتباس

هكذا كان مجتمع المسلمين عندما كانت حلاوة الإيمان تملأ القلوب، مجتمع واحد في همومه وسلوكه وتطلعاته، مجتمع يحب فيه المسلم لأخيه ما يحبه لنفسه، لا فرق بينهم ولا تمايز، قلوبهم على قلب رجل واحد، الغني فيهم والفقير، كان الغني فيهم لا تراه إلا متصدقًا منفقًا، والفقير لا تراه إلا صابرًا محتسبًا متعففًا، وعلى ربه متوكلاً، قد بذل كل الأسباب، وكان أحدهم ..

 

 

 

الحمد لله الذي خلقنا من عدم، وكبرنا من صغر، وقوانا من ضعف، وأسمعنا من صمم، وأغنانا من فقر، وعلمنا من جهل، وأمننا من خوف، وهدانا من ضلالة، أحمده سبحانه وأشكره، وبالشكر تنال الزيادة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عالم السر والنجوى، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السموات العلى.

وإذا همـمت بريبـة في ظلمة *** والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها *** إن الذي خلق الظلام يراني

وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، جاهَد في الله حقَّ جهادِه طولَ عُمُره وسائرَ دهرِه، صلَّى الله عليه وعلى سائر أهله وأصحابه ما جادَ السحابُ بقطرِه، وطلَّ الربيع بزَهره، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

عباد الله: يخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يومٍ من بيته، فقابله في الطريق أبو بكر الصديقُ وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهما: "ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟!". فأجابا: أخرجنا الجوع يا رسول الله. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وأنا -والذي نفسي بيده- ما أخرجني إلا الذي أخرجكما، قوموا"، فقاموا معه فأتوا حائطًا لرجل من الأنصار، فإذا هو غيرُ موجود في بيته، فلما رأت زوجته رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: مرحبًا وأهلاً، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أين فلان؟! قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء، فلما جاء الأنصاري فنظر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه قال: الحمد لله، ما أحد اليوم أكرمُ أضيافًا مني، قال: فانطلق فجاءهم بعذقٍ فيه بُسْر وتمر ورطب، فقال: كلوا من هذا، وأخذ السكين ليذبح لهم، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إياك والحلوب"، فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا، فلما شبعوا ورووا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر وعمر: "والذي نفسي بيده لتسألنَّ عن هذا النعيم يوم القيامة". أخرجه مسلم 6412.

هكذا كان مجتمع المسلمين عندما كانت حلاوة الإيمان تملأ القلوب، مجتمع واحد في همومه وسلوكه وتطلعاته، مجتمع يحب فيه المسلم لأخيه ما يحبه لنفسه، لا فرق بينهم ولا تمايز، قلوبهم على قلب رجل واحد، الغني فيهم والفقير، كان الغني فيهم لا تراه إلا متصدقًا منفقًا، والفقير لا تراه إلا صابرًا محتسبًا متعففًا، وعلى ربه متوكلاً، قد بذل كل الأسباب، وكان أحدهم إذا أكرمه الله بنعمة لا يدخرها لنفسه، بل يشعر أن لإخوانه فيها حقًّا ولو كان أشدهم حاجة، وأنه إن لم يستعملها فيما أمر الله فإنه آثم بين يدي الله يوم القيامة، هذا جابر بن عبد الله الصحابي الجليل -رضي الله عنه- يوم غزوة الخندق، والمسلمون محاصرون، وقد بلغ بهم الجوع مبلغًا، حتى إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يربط على بطنه الحجر من شدة الجوع، فرأى جابر ذلك، واستأذن رسول الله وعاد إلى بيته يسأل زوجته: هل عندنا من طعام؟! وأخذ يحدثها بما حل برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من الشدة والجوع، فقالت: عندنا جراب من شعير وعناق -وهي أنثى الماعز الصغيرة-، فقام جابر يذبح ويطحن وزوجته تعد الطعام، ووضعت اللحم في إناء، والعجين في إناء آخر، وقد أوقدت التنور، ثم قالت: يا جابر: إنه طعام قليل، فاذهب وادع رسول الله ورجلاً أو رجلين معه، فقال جابر: يا رسول الله: عندي طعام قليل، فتعال أنت ورجلان معك، فنادى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأعلى صوته: "يا معشر المهاجرين والأنصار: هلموا إلى وليمة جابر"، فولى جابر مسرعًا إلى زوجته وهو في حيرة من أمره: كيف ومن أين يطعم كل هؤلاء المسلمين؟! فقالت زوجته: هل أمرك رسول الله بشيء؟! قال: أمرني فقال: "لا تنزلن برمتكم، ولا تخبزن عجينتكم حتى أجيء"، فجاء رسول الله، وكانت زوجة جابر تخبز ورسول الله يغرف من اللحم ويطعم أصحابه وهم أكثر من ألف رجل، كل ذلك ببركة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأقسم جابر بالله فقال: لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط -تغلي فيسمع غليانها- كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو. وأصل القصة في البخاري ومسلم.

عباد الله: ما من أحد إلا وسوف يسأل بين يدي الله عن النعم التي وهبه الله إياها، الغني والفقير، والرجل والمرأة، والعالم والجاهل، الأمير والوزير، وكلٌّ على قدر نعم الله وفضله عليه؛ قال تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر:92]، وقال تعالى: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [التكاثر:8].

فوجب إذًا أن يؤدي المسلم حقها من الشكر والثناء والطاعة لمن وهبها له وهو المولى -سبحانه وتعالى-، وعليه كذلك أن يستعملها في طاعته ومرضاته، وأن لا يتجاوز حد الطغيان والتبذير والإسراف في استخدامها، وعلى صاحب النعمة -مهما قلت أو كثرت- أن يدرك أن من مقتضيات شكر هذه النعمة أن يستعملها في نفع الآخرين من حوله إذا استطاع إلى ذلك سبيلاً، قال -صلى الله عليه وسلم-: "أحب الناس إلى الله أنفعهم". حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة.

وحذّر -صلى الله عليه وسلم- من الغفلة عن ذلك، ونهى أن يعيش المرء لنفسه وحسب، ويمنع نعم الله عن عباده، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم"، فذكر منهم: "ورجل منع فضل ماء فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك". البخاري ح2369.

وإذا ظهر هذا المرض في أي مجتمع وعاش كل فرد من أفراده لشهواته وملذاته دون أن ينظر في مصالح ومنافع الآخرين من حوله، وأساء استعمال هذه النعم، أصيب المجتمع باضطراب القيم وانحراف السلوك، ومن الناحية الاقتصادية يظهر الغنى المطغي والفقر المنسي؛ فعن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بادروا بالأعمال سبعًا؛ هل تنتظرون إلا فقرًا منسيًا، أو غنى مطغيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال، فشر غائب ينتظر، أو الساعة، فالساعة أدهى وأمر". رواه الترمذي وقال: حديث حسن.

ومن الناحية الاجتماعية تظهر في المجتمع طبقتان لا ثالث لهما: طبقة المترفين أصحاب الثروات والأموال والعقارات، وطبقة الفقراء المعدمين المحتاجين، وهو الغنى المطغي والفقر المنسي الذي حذر منه -صلى الله عليه وسلم-.

لذلك وقف الإسلام -عباد الله- أمام ترف الأفراد المجتمعات والشعوب والأمم محذرًا ومبينًا خطورة ذلك الترف، وأنه معولُ هدمٍ لطاقاتها وقدراتها، فهو يُغري صاحبه بالإخلاد إلى الأرض والخوض في الدنيا، والتعلّق بالمناصب والجاه والمال ونسيان معالي الأمور، يقول الله تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) [القصص: 58]، قال القرطبي: "البطر هنا هو الطغيان بالنعمة، وقيل: سوءُ احتمالِ الغنى بأن لا يحفظ حق الله فيه، وجميعه يرجع إلى الترف الذي هو التوسّع في كل شيء، متى يدخل العبد في الدوائر الممنوعةٍ شرعًا".

ولم يذكر الترف في كتاب الله تعالى إلا في موضع الذم، فقد ذكر القرآن أن المترفين كانوا أول من كفر بدعوات الأنبياء والمرسلين: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ، وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سـبأ: 34، 35]، وقال تعالى: (وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) [المؤمنون: 33].

وقد بينت النصوص إجرام المترفين، قال تعالى: (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ) [هود: 116].

فالترف يؤدي حتمًا إلى فساد المجتمع وهلاكه على المدى الطويل، ووجود الترف في مجتمع ما معناه سقوطه وتصدعه، وتوالي نزول المصائب والكوارث عليه حتى ينتهي وتندثر حضارته، قال الله تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) [الأحزاب: 16].

عباد الله: والمترفون ليسوا هم الأغنياء ومن وسع الله عليهم بالرزق والمال، فالغنى مطلوب شرعًا، والمترفون ليسوا هم الذين يوسعون على أنفسهم في المطعم والمشرب والملبس والمسكن، فالإسلام لم يعتبر ذلك من الترف؛ قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْق) [الأعراف: 32]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده، ويبغض البؤس والتباؤس". صحيح الجامع (1/359) ح 1742.

وقال -صلى الله عليه وسلم- لوالد أبي الأحوص: "فإذا آتاك الله مالاً فليُرَ أثر نعمة الله عليك وكرامته". صححه الألباني في صحيح الجامع (1/284) ح1333.

وقد كان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم أصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي". مسلم (4/2087) ح2720.

ولكن المترف من أخذ المال من غير حله وأنفقه في غير محله، وقد يكون عبارة عن نعمة تورث طغيانًا أو كفرًا، ويصاحبها البطر والظلم، فإن فعلوا ذلك أحلوا بأنفسهم سخط الله وعقوبته، والمترف من تستعبده شهوته ورغبته وتشغله عن الحق وتثنيه عن واجباته، والمترف من يوجه طاقاته واهتماماته وأمواله وأوقاته في أمور تنسيه شكر المنعم عليه -سبحانه وتعالى-، وتجعله متعلقًا بسفاسف الأمور، ولو كان على حساب الدين والقيم والأخلاق.

كان عند المعتمد بن عباد أحد حكام الأندلس زوجة وبنات، وكانوا في النعيم والترف والقصور والحبور، وفي يوم من الأيام اشتهت هذه المرأة أن تخوض في الطين!! لاحظ أذواق المترفين، فهي عندها من الطعام والشراب والفراش الوثير والجواهر والدرر والجواري والخدم الشيء الكثير وأشياء كثيرة، لكنها اشتهت أن تحمل قربة ماء على كتفها وتخوض في الطين لتملأها مثل الجواري والخدم، ولكن أين الطين الذي ستخوض فيه زوجة الحاكم؟!

قام المعتمد بن عباد وأمر الحاشية بأن يؤتى بالمسك والكافور ويعجن بماء الورد ويوضع طينًا على مسافات هائلة من الأرض، ويرش عليه ماء الورد، ثم أُعطيت زوجته قربة فاخرة فيها خيوط من الحرير، وصارت تحملها على كتفها وبناتها ووصيفاتها من خلفها، وتمشي في ذلك الطين، فحققت بذلك لذتها!! هذه لذات المترفين، وماذا بعد؟!

مات المعتمد بن عباد في أغمات مأسورًا، وبناته كن في الأطمار البالية، لا تكاد تجد الواحدة منهن ما يستر عورتها، فلما رأى والدهم هذا المشهد -وكان شاعرًا فحلاً- قال أبياتًا كثيرة يتذمر فيها من حاله ومآله، ومن ضمن هذه الأبيات يقول مخاطبًا نفسه:

فيما مضى كنت بالأعياد مسرورًا *** فجاءك العيد في أغمات مأسورًا
تـرى بناتـك في الأطمار جائعة *** يغزلن للنـاس ما يملكن قطميرًا
برزن نحـوك للتسـليم خـاشعة *** أبصارهن حسـيرات مكاسيرا
يطأن في الطـين والأقـدام حافية *** كأنها لم تطأ مسـكًا وكافورًا
من بات بعدك في مـلك يُسـرّ به *** فإنما بـات بالآمـال مغرورًا

هذه عاقبة الترف والمترفين. جعلني الله وإياكم ممن إذا أُنعم عليه شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

عباد الله: ومن الآثار المدمرة لظهور الترف والمترفين في مجتمع من المجتمعات أو دولة من الدول: تبديد الأموال والثروات، وارتكاب المحرمات، وعبودية الشهوات، والتكاسل عن العبادات، والتسويف وطول الأمل ونسيان الآخرة، والتعالي على الناس، والسخرية منهم؛ قال تعالى: (وكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ) [الأنبياء: 11 – 15].

والمترف لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يدعو إلى فضيلة ولا يبني وطنًا ولا يقف في وجه ظالم، فالأوطان لم يحررها المترفون، وهم كذلك لا يواجهون المحتلين والمستعمرين، والمترفون كذلك لا يشعرون بحاجات الآخرين من حولهم من الفقراء والمحتاجين، بل ينظرون إلى قضايا هؤلاء بسخرية وازدراء، لما خرج العمال الفرنسيون يتظاهرون من أجل رغيف الخبز أشرفت عليهم الملكة مارى أنطوانيت من نافذة القصر فقالت: ماذا يريد هؤلاء؟! قالوا: إنهم يتظاهرون من أجل الخبز، قالت: لماذا لا يأكلون البسكويت؟! وعندما خرجت بعض الشعوب العربية فيما يسمى بالربيع العربي تطلب الحرية والعدالة وكرامة الإنسان تندّر المترفون، ووصفوهم بأبشع الأوصاف، وألّبوا عليهم الطغاة، وسفكت الدماء، وهتكت الأعراض، وأدخل الناس السجون والمعتقلات، وعذب الشباب والفتيات، ولم يحترم الصغير ولا الكبير، ورأينا أحد المترفين يسب ويشتم؛ لأن هؤلاء المتظاهرين في أحد الشوارع حرموه من البيتزا، وكيف سينام ولم يتعشّ البيتزا، ولم يدرك أن آلة الفتك والظلم والطغيان قد حصدت أرواح كثير من الشباب، وداست على جثثهم المجنزرات، وحرم الطعام والشراب الكثير من الأطفال والنساء، فماذا تنتظر الأمة من هؤلاء؟!

أيها المؤمنون، عباد الله: لقد أدى ظهور الترف والمترفين في أمة الإسلام اليوم إلى ذهاب عزها وضياع مجدها واحتلال أراضيها ومقدساتها، ماذا تنتظرون أن يفعله المترفون من أجل الفلسطينيين المحاصرين والمشردين والمعتقلين والمضطهدين من عشرات السنين، أو ماذا سيقدمون من حلول لقضايا أمتهم المختلفة؟! في سوريا والتي ما زالت دماء أبنائها تملأ الأرصفة والطرقات، وتحت أنقاض المباني والعمارات، وهل سيقدم المترفون الأموال والثروات المنهوبة لفقراء الأمة الذي يموتون جوعًا في شرقها وغربها؟! وهل يمكن أن تتجه أنظار هؤلاء المترفين إلى تطوير التعليم ومواجهة البطالة في بلدانهم؟! وهل يمكن أن يستثمروا خيرات أمتهم في بناء الإنسان وتطوير الأوطان وإعداد العدة لمواجهة الظلم والطغيان؟!

إن من يقف لحظات مع التاريخ يجد أنهم لن يفعلوا ذلك لأنهم لا يسعون إلا في سبيل مصالحهم ولذاتهم وشهواتهم التي تكون سببًا في تقصير هممهم وطموحاتهم.

إن الترف داءُ عضال، ومرض قَتال، إن استشرى في أمّة ذهب بعزها وأورثها كسلاً وخمولاً، وركونًا إلى الدنيا ومحبةً لها وحرصًا عليها.

وإذا كان هذا هو حال المترفين في الدنيا فحالهم في الآخرة أشد، قال تعالى: (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ) [الواقعة: 41 – 45].

لذلك وجب علينا أن نعود لقيم ديننا وأخلاق أمتنا العظيمة، ويجب أن ندرك حقيقة الدنيا وخطورة الترف والمترفين في حياة هذه الأمة، مرّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسوق، فوجد جديًا أسك ميتًا، فتناوله، فأخذ بأذنه، ثم قال: "أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟!"، فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟! قال: "أتحبون أنه لكم؟!"، قالوا: والله لو كان حيًا كان عيبًا فيه أنه أسك، فكيف وهو ميت! فقال: "فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم"، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء". قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه -وأشار بالسبابة في اليم- فلينظر بم يرجع".

وعلى كل مسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن يقوم بواجبه تجاه إخوانه، وأن يتذكر أن هذه الدنيا إلى زوال، وأن النعم تدوم بالشكر، ويوم القيامة حساب وجنة ونار، فلا يستعملها إلا فيما يرضي ربه -سبحانه وتعالى-، ولنتطلع جميعًا إلى معالي الأمور والغايات العظيمة، ونؤثر مصالح الأمة على مصالحنا كأفراد.

هذا؛ وقد أمركم ربكم بأمر بدأ فيه بنفسه المتعالي بعظمته ومجده، وثنى بملائكته الكرام المسبحة بقدسه، وثلّث بكم معاشر المسلمين من جنه وإنسه، فقال -جل من قائل سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً).

 

اللهم صل وسلم وزد وبارك على صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، والقلب الأطهر، نبينا وحبيبنا وقدوتنا إلى الخير محمد بن عبد الله، وعلى خلفائه الأربعة الراشدين المهديين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين. والحمد لله رب العالمين.
 

 

 

 

المرفقات

هلاك للمجتمعات وضياع للقيم

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات