اقتباس
والربا خسة ونذالة واستغلال؛ فإن المحتاج يأتي المرابي -غالبًا- في فاقة وشدة واضطرار وحاجة، فبدلًا من أن يعينه ويحمله ويفرِّج عنه شدته وكربته ويمهله ويتصدق عليه ويحط عنه كما...
ثلاثة ذنوب فقط، لا أعلم غيرها في الكتاب والسنة، هي التي أعلن الله -عز وجل- الحرب على مقترفيها أو أخبر أن مقترفيها يحاربونه، واحد منهم في السنة، واثنان في القرآن الكريم، أما الأول: فمن عادى أولياء الله -تعالى-؛ ففي الحديث القدسي: "من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب"(رواه البخاري)، وأما الثاني ففي قوله -تعالى-: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا)[المائدة: 33].
وأما الذنب الثالث الذي أعلن الجليل -سبحانه وتعالى- الحرب على أصحابه صراحة وفي غير ما مواربة فهو الربا: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)[البقرة: 278-279]، فـ"حرب الله النار، وحرب رسوله السيف... يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: من كان مقيمًا على أكل الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع -أي تاب- وإلا ضرب عنقه"(تفسير الخازن).
والربا أشر ما يأكله ابن آدم ويدخل جوفه على الإطلاق؛ يروي ابن بكير فيقول: "جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال: يا أبا عبد الله، إني رأيت رجلًا سكرانا يتعاقر يريد أن يأخذ القمر، فقلت: امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشر من الخمر، فقال: ارجع حتى أنظر في مسألتك، فأتاه من الغد، فقال له: ارجع حتى أنظر في مسألتك، فأتاه من الغد، فقال له: امرأتك طالق؛ إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئًا أشر من الربا، لأن الله أذن فيه بالحرب"(تفسير القرطبي).
وآكل الربا يأتي يوم القيامة في هيئة المجنون المصروع -والعياذ بالله-: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)[البقرة: 275]، "أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له؛ وذلك أنه يقوم قيامًا منكرًا، قال ابن عباس: "آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق""(تفسير ابن كثير)، فيا لها من فضيحة على رءوس الخلائق يوم الحسرة والندامة.
والله -عز وجل- لا يبارك في أموال الربا، بل يمحقها محقًا: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا)[البقرة: 276]، يروي ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الربا وإن كثر، فإن عاقبته تصير إلى قُلٍّ"(رواه أحمد، وصححه الألباني)، وعند ابن ماجه: "قِلَّةٍ"؛ وذلك هو المحق والخسارة.
والربا -أعزكم الله- خسة ونذالة واستغلال؛ فإن المحتاج يأتي المرابي -غالبًا- في فاقة وشدة واضطرار وحاجة، فبدلًا من أن يعينه ويحمله ويفرِّج عنه شدته وكربته ويمهله ويتصدق عليه ويحط عنه كما أمر الجليل -عز وجل-: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ)[البقرة: 280]، إذا به يزيده كربًا على كربه وشدة على شدته، وفاقة على فاقته!
وليس هذا فقط ما في الربا من الشر -وكفى به-، بل لقد روى عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد من ستة وثلاثين زنية"(رواه أحمد، وصححه الألباني)... لذا تجد كعب الأحبار يقول: "لأن أزني ثلاثًا وثلاثين زنية أحب إليَّ من أن آكل درهم ربا يعلم الله أني أكلته حين أكلته ربا"(رواه أحمد، وصححه الألباني)، بل يقول عبد الله بن سلام: "الربا اثنان وسبعون حوبًا، أصغرها حوبًا كمن أتى أمه في الإسلام"(رواه البيهقي في الشعب، وصححه الألباني).
فالزنا مع فحشه وشناعته وكونه من أكبر الكبائر لكنه رغم ذلك أهون عند الله -تعالى- من الربا! وكلاهما شنيع فظيع يوجب العذاب في الدنيا قبل الآخرة؛ فعن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا ظهر الزنا والربا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله"(رواه الحاكم، وصححه الألباني)، ويقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "ما هلك أهل نبوة حتى يفشو فيهم الربا والزنا"(السنة للمَرْوَزِي).
ولا ننسى -وكيف ننسى- كيف قام النبي -صلى الله عليه وسلم- في آخر حياته فأكد تحريم الربا عمليًا -بعد أن حرَّمه نظريًا- فقال: "وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله"(رواه مسلم)؛ احتياطًا وتأكيدًا وتعليمًا وبدءًا بالنفس ليقتدي الناس به.
***
والربا مائة نوع ونوع وألف صنف وصنف... يسمونه في البنوك "فوائد"، ويسمونه في شركات التمويل "أرباحًا"، ويسميه آخرون "ريعًا" أو "عمولة" أو "تعويضًا"... لكن الربا هو الربا مهما اختلفت مسمياته، فعن البراء بن عازب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الربا اثنان وسبعون بابا، أدناها مثل إتيان الرجل أمه"(رواه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني)، وما انتشار تلك الأنواع الكثيرة من الربا إلا تحقيقًا لنبوءة النبي -صلى الله عليه وسلم حين قال: "ليأتين على الناس زمان، لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام"(رواه البخاري)!
وكل من له علاقة بالربا فهو ملعون ما دام راضيًا ومعينًا، فعن جابر قال: "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه"، وقال: "هم سواء"(رواه مسلم، ورواه البخاري عن ابن مسعود).
***
ولكن هل نفهم من ذلك أنه لا مفر ولا مهرب من الربا؟!
ونجيب: كلا أبدًا، بل دائمًا عند الله المخرج، والمخرج هنا هو الأصل الحلال، إنه ما يُعرف في زماننا بالاقتصاد الإسلامي، وهو الأصل لا البديل، اقتصاد يرتكز على قواعد الدين والأخلاق، اقتصاد يقوم على الرحمة والصدق والعدل والإخاء والمواساة والتكافل... اقتصاد يرفض الربا ويقصيه، ويشجع على العمل والاستثمار والجد، ولا يجعل المال سلعة في ذاته؛ تباع وتُشترى وتؤجر! وإنما هو مجرد أداة لقياس قيمة الأشياء ووسيلة لتسهيل مصالح الناس وأسلوب من أساليب التبادل التجاري، اقتصاد قائم على فكرة أن "المال مال الله" وما نحن إلا مستخلفين فيه.
ولبيان حرمة الربا وخطورته، وقبل ذلك تعريف الربا وكنهه وماهيته، وتفصيل أنواعه وأصنافه، وجلاء أضراره ومفاسده، ثم تجلية محاسن الاقتصاد الإسلامي ومبادئه... لكل هذا ولغيره قد عقدنا هذا الملف العلمي بمحاوره الخمسة.
التعليقات