بوعلام يوبي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين؛ محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30]، والاستخلاف المذكور في الآية يُراد به أمران؛ الأول: العبادة، والثاني: التعمير والتشييد والبناء، فكلما استقر قوم في مكان، فإنهم يقومون بتنظيم شؤونهم تلقائيًّا حسب المعطيات الطبيعية (التضاريس، المناخ)، والمعطيات الثقافية (التقاليد، العبادات)، والمعطيات العسكرية (الدفاع)، والمعطيات الاقتصادية (الإنتاج، المبادلات).
من مقاصد الشريعة الإسلامية الخمسة: حفظ المال؛ فلقد اعتنت به الشريعة الغرَّاء اعتناءً عظيمًا؛ حيث جعل له الشارع الحكيم قواعدَ وضوابط؛ كتحريم الربا ووجوب الزكاة والحث على الصدقة، على سبيل المثال لا الحصر؛ قال الله عز وجل: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ [البقرة: 276]، وقال تعالى: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 188]، وقال عز وجل: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ﴾ [الأنعام: 152].
يعتبر الإسلام المال - بمفهومه العام - قوامًا للدنيا، ولم يسمح بالتصرف فيه بصفة مطلقة، بل يقيد الإنسان في احتيازه، ويرشده في كيفية إنفاقه، فعلى الإنسان أن ينظر من أين يكتسبه وفيما ينفقه؛ لحديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟ وعن علمه ما عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟))؛ [رواه البخاري ومسلم]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ﴾ [المؤمنون: 4]، وقال عز وجل: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [النور: 56]، إذا كانت الزكاة حقًّا مفروضًا بقوة الشريعة، فإن الإسلام حث كذلك على فضيلة الصدقة، وهي موكولة لضمير الفرد بلا حساب أو مقدار، فإنها تثمر التراحم والإخاء، والتضامن والتعاضد والائتلاف و(الروح العائلي) ولا شك؛ قال الله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 215]، وعلى هذا يوجه الإسلام إلى الصدقة والبر، ويُحبِّب في الإنفاق طوعًا واحتسابًا، وانتظارًا لمرضاة الله في الدنيا ولثوابه في الآخرة، وهذا عكس الرأسمالية؛ حيث إن غايتها هي الربح إلى الحد، وتراكم رأس مالها، وتعتبر النظرية الرأسمالية رأس المال مستحقًّا دائمًا للربح وبلا مقابل، ومن هنا أجازوا الربا والميسر واليانصيب والبغاء ونحو ذلك.
فأما الاقتصاد الإسلامي، فإنه يمنح الأرباح والطيبات من جهة، ومرضات الله من الجهة الأخرى؛ قال تعالى: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10 - 12].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أغْبَرَ يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، ومَلْبَسُهُ حرام، وغُذِّيَ بالحرام فأنَّى يُستجاب له))؛ [أخرجه الترميذي (2419) في صفة القيامة، وقال: هذا حديث حسن صحيح].
وعلى هذا يرتبط الاقتصاد الإسلامي ارتباطًا وثيقًا بدين الإسلام، عقيدة وشريعة؛ حيث لا يستطيع الدارس للمفهوم الإسلامي الخاص بالجوانب الاقتصادية أن يدرسه مستقلًّا عن عقيدة الإسلام وشريعته؛ ذلك لأن النظام الاقتصادي الإسلامي جزء لا يتجزأ من الشريعة، ويرتبطان معًا بالعقيدة الإسلامية ارتباطًا بيِّنًا واضحًا، ولعل ذلك يبدو في خاصية الحلال والحرام التي تميز الشخصية المسلمة في حركته الحياتية، عند إقدام المسلم للتعامل في محيط الحياة اليومية.
فإن أيَّ مذهبٍ اقتصادي يجب أن يتناول من ناحية طريقته في تنظيم الحياة الاقتصادية، ومن ناحية أخرى رصيده من الأفكار والمفاهيم التي يرتبط بها؛ فإذا درسنا - مثلًا - المذهب الرأسمالي القائل بالحرية الاقتصادية، كان لزامًا علينا أن نبحث عن الأفكار والمفاهيم الأساسية التي يقوم على أساسها تقديس الرأسمالية للحرية، وبتعبير آخر: إن قضية التنمية الاقتصادية ليست قضية اقتصاد فقط، كما قد يتبادر إلى أذهان بعض الناس، ولكنها أيضًا قضية عقيدة وثقافة وسياسة وأخلاق، ولا بد لإطلاقها واستمرارها من توافر البيئة أو المحيط الملائم لها؛ إذ بغير قيام هذه البيئة أو ذلك المحيط، لا يمكن أن نتصور انطلاقًا للحضارة في جانبها المدني المرتبط بحاجات الإنسان الأساسية.
فالمذاهب المسيطرة في مجال الاقتصاد والقرارات العامة لا تأخذ بعين الاعتبار إلا الأسواق والمال، غير أن الإسلام هو وحده الذي يأخذ في الحسبان المجتمع ككل بالنظر إلى غاياته المنشودة، وعلى هذا فالرجوع إلى الإسلام له أهمية قصوى؛ حيث إن القرارات الاقتصادية تأخذ في محيط يسود فيه الاضطرابات والحيرة.
والإسلام هو الذي يتضمن التصور الكلي الشامل المتناسق مع الوجود والحياة، ويقيم التكافل الاجتماعي في محيط الإنسان مقام الصراع والتطاحن، ويجعل للحياة قاعدة روحية تصلها بالخالق في السماء، وتسيطر على اتجاهها في الأرض، ولا تنتهي بالحياة إلى تحقيق أغراض مادية بحتة، وإن كان النشاط المادي المثمر عبادة من عبادات الإسلام.
كما أن بناء النظام الاقتصادي، وتسييره في خط مستقيم، لا يمكن إدراكه بغير وازع ديني ومحرك داخلي من ذاتية الفرد؛ ألا وهي العقيدة الصحيحة والسليمة؛ فهو يبدأ من الفرد وينتهي دائمًا إلى الفرد، وهذه المهمة تقتضي تغيير الرجال، كما تقتضي في نفس الوقت إصلاح المؤسسات، والقرآن الكريم يقر هذا ويرد على دعاة التغيير، الذين استثنَوا أنفسهم منه؛ كالثوريين وأصحاب الانقلابات والانتهازيين؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، أما الاقتصاد الرأسمالي فهو الوجه الآخر المهمين على جزء كبير من خارطة الحضارة المعاصرة، ويرتكز المذهب الرأسمالي على ثلاثة أركان رئيسية، يتألف منها كيانه العضوي الخاص الذي يميزه عن الكيانات المذهبية الأخرى؛ وهذه الأركان هي:
أولًا: الأخذ بمبدأ الملكية الخاصة بشكل غير محدود، وعلى هذا الأساس تؤمن الرأسمالية بحرية التملك وتسمح للملكية الخاصة بغزوِ جميع عناصر الإنتاج.
ثانيًا: فسح المجال أمام كل فرد لاستغلال ملكيته وإمكاناته: وذلك على الوجه الذي يروق له، والسماح له بتنمية ثروته بمختلف الوسائل والأساليب التي يتمكن منها، وبذلك أصبح الفرد العامل الوحيد في الحركة الاقتصادية، ويصبح لكل فرد الفرصة الكافية لاختيار نوع الاستغلال الذي يستغل به ماله، (وهذا الذي أنتج الفردية).
ثالثًا: ضمان حرية الاستهلاك، كما تضمن حرية الاستغلال، فلكل شخص الحرية في الإنفاق من ماله كما يشاء على حاجاته ورغباته.
وعلى هذا فإن العالم الغربي لم يصبح كافرًا فقط، بل هو مشرك؛ فكل فرد أو مجموعة يتخذ ملذات لنفسه إلهًا كل ما يشتهيه، جاعلًا المال والحكم والتقنية والجنسية والأمة والإيديولوجية والنمو الاقتصادي غاية بحدِّ ذاتها، وقيمة أصلية، وإلهًا باطلًا مفترسًا ومتعصبًا ومتوحشًا؛ حيث يدوس بلا شفقة كل قيمة أخرى، وكل إنسان يقف أمام انتشاره.
وفي هذا الباب؛ قال نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام: "تعِسَ عبدُ الدينار وعبدُ الدرهم وعبد الخميصة، إن أُعطيَ رضيَ، وإن لم يُعْطَ سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش"؛ [رواه مسلم (1015)]، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من جملة ما ذكر التقديس المالَ، وهكذا أصبح المال نوعًا من الصنم يُعبَد من دون الله، أما الذي يستعمله كوسيلة في ابتغاء مرضاة الله والدار الآخرة؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم المال الصالح للرجل الصالح"؛ [رواه البخاري (2886)].
لم أتطرق إلى النظام الشيوعي، فقد ظهر فشله؛ حيث انهار كليًّا في سنة 1989م، وكفى الله المؤمنين القتال.
وعلى هذا نستطيع أن نقول – بلا ريب - أن تثقيف الأمة عن طريق نشر القيم والمبادئ والأخلاق الإسلامية، يجعل الفرد المسلم عضوًا فعَّالًا إيجابيًّا.
الملكية الفردية:
إن الحقوق الاقتصادية داخلة في حقوق الإنسان، والإسلام أعم من حقوق الإنسان، لذا فعلى الإنسان أن يتصرف فيها عن طريق التجارة أو الإنتاج وفقًا للقواعد والأحكام الشرعية، وعلى هذا حرم الشارع الحكيم الربا واكتناز المال؛ لأن التعامل بهما يخالف مبادئ وقيم ديننا الحنيف، وهذان من الأشياء التي تخل بالتماسك والتضامن اللذين من الضروري أن يسودا في المجتمع؛ ولهذا جعل الله تعالى وعيدًا شديدًا للمتعاملين بالربا والذين يكنزون المال؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ﴾ [التوبة: 34، 35].
يقرر الإسلام حق الملكية الفردية للمال بوسائل التملك المشروعة ويضع الحدود الرادعة لكفالة ذلك، فوق ما يضع من التوجيهات التهذيبية لكفِّ النفوس عن التطلع إلى ما ليس لها، وما هو داخل في ملك الآخرين، وهي حق التصرف في هذا المال، بالبيع والإجارة والرهن والهبة والوصية إلى آخر حقوق التصرف الحلال، وهذا الحق قاعدة للاقتصاد الإسلامي؛ قال الله عز وجل: ﴿ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ﴾ [النساء: 32].
قال بعض العلماء: إن حيازة الإنسان للمال - وفق الرؤية الإسلامية - تعتبر وظيفة أكثر منها امتلاكًا، ذلك لأنه - من خلال النصوص المنزلة - وكيلٌ في هذا المال عن الجماعة؛ لأن المال أصلًا حق للجماعة، والجماعة مستخلفة فيه عن الله الذي لا مالكَ لشيء سواه: ﴿ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ﴾ [الحديد: 7].
والإسلام يرفض تمامًا أن يحبس المال في أيدي فئة خاصة من الناس يتداول بينهم، ولا يجده الآخرون؛ قال تعالى: ﴿ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ﴾ [الحشر: 7]،كما وضع للملكية أسبابًا لاكتسابها، وضع لها أيضًا قيودًا لتنميتها وحقوقًا عليها.
كما منح الإسلام للرجل حقًّا في التملك، منح أيضًا للمرأة حقًّا في التملك؛ يقول الأستاذ مولاي ملياني بغدادي: "منح الإسلام للمرأة حقًّا في التملك والتصرف والإرث والهبة، فمتى بلغت المرأة سن الزواج، وهي رشيدة، كان لها حق في أن تتصرف في مالها بالبيع والشراء والهبة والوصية مستقلة بجميع التصرفات الخاصة بها: العقدية والقولية والفعلية"؛ [انتهى كلامه].
وعلى هذا إذا كانت الرأسمالية قد أباحت حرية التملك وتداول رأس المال بلا ضوابط، وإذا كانت الشيوعية تعطي حق الدولة أو الحزب في السيطرة والتوجيه، لكل ما يمت للعملية الاقتصادية بصِلةٍ، فإن الإسلام يرفض كلا المنهجين، وذلك عن طريق سياسته الخاصة في مسألة الملكية، كما سبق بيانه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يقول العبد: مالي مالي، إنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبِس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس))؛ [أخرجه أحمد (4/ 197)].
العمل مورد الدخل:
يعتبر الإسلام العمل بكل أنواعه وألوانه - كالزراعة والصناعة والثقافة على سبيل المثال - من أهم الوسائل لنَيلِ حق التملك، وتتوارد أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن قداسة العمل، فيقول: ((ما أكل أحدكم طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبيَّ الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده))؛ [رواه مسلم (2959)]، كذلك يراعي الإسلام إتاحة العمل الملائم لكل فرد مسلم - باعتبار العمل حقًّا له وواجبًا عليه - وتهيئة التكوين والتعليم الكافيَيْنِ لكل طالبِ علمٍ لتحسين مستواه العلمي والفني والتقني، وبذلك يستطيع كل قادر على العمل أن يكفي نفسه بنفسه، وتحريم الصدقات والمعونات الاجتماعية تحريمًا باتًّا على كل متعطل عن العمل الملائم له باختياره، امتثالًا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: ((لا تحل الصدقة لغنيٍّ، ولا لذي مِرَّةٍ سَوِيٍّ))؛ [رواه البخاري (2072)].
كما أن الإسلام يوجه طاقات الأفراد جميعًا نحو الإنتاج؛ لأنه لا يسمح لأحد أن يكسب عن طريق لا يعطي إنتاجًا حقيقيًّا، كالقمار واليانصيب والبغاء.
قال ابن تيمية: "قال السلف: أنت محتاج إلى الدنيا، وأنت من نصيبك من الآخرة أحوج، فإن بدأت من نصيبك من الآخرة مرَّ على نصيبك من الدنيا فانتظمه انتظامًا؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 56 - 58].
فأما تعيين مكسب على مكسب من صناعة أو تجارة، أو بناية أو حراثة، أو غير ذلك، فهذا يختلف باختلاف الناس، ولا أعلم في ذلك شيئًا عامًّا، لكن إذا عنَّ للإنسان جهة فليستخر الله تعالى فيها الاستخارة المتلقاة عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم، فإن فيها البركة ما لا يُحاط به، ثم ما تيسر له فلا يتكلف غيره إلا أن يكون منه كرامة شرعية"؛ [انتهى كلامه].
وحقيقة الأمر أن الشعوب الإسلامية تستطيع أن ترفع تحديات العصر من خلق مناصب الشغل للشباب وتكافؤ الفرص والحصول على النمو الاقتصادي الهائل الذي سيفتح – إن شاء الله - فرصًا للعمل؛ حيث تمتلك هذه الدول ثروات طبيعية ومعدنية وموارد طاقوية كبيرة، لكن الموارد الحقيقية للشعوب الإسلامية هي رصيدها الروحي والثقافي، فإن بعض هذه الشعوب - خاصة العرب - لهم ماضٍ زاهر يشهد لهم بالتشوق إلى العلم، وبالأهلية بلا جدال للبحث العلمي، وهو المبعث الأساسي لكل نمو اقتصادي، ولكل حضارة في جانبها المدني أو العمراني.
تنوع المراجع والتراث:
في وقت ما كان يشك في وجود التأمل أو الفكر الاقتصادي الإسلامي، ربما كنا ضحية تأثير المركزية الأوروبية الثقافية، ولكن هذه الحجة وحدها غير كافية، والسبب الآخر والأكثر وزنًا هو أن الأمر يتعلق بميدان جديد لم يدرس بشكل وافٍ، والأكثر من ذلك هو أنه تجري منذ السنوات الأخيرة دراسات في هذا المجال تناولت مواضيع سطحية كموضوع "الاستثمار بلا ربا"، و"النظم المالية في الاقتصاد".
ولا ننكر أن هذه المواضيع شائكة، ولكن لا بد لنا أن نلاحظ أن هذه الاجتهادات الفذة انصرفت ضمنًا إلى محاولة توفيق بين الإسلام والرأسمالية، كأنما هذه النظم (البنوك) هي الأمر الأساسي في الاقتصاد، بينما هي - سواء أكانت متعاملة على أساس الربا أم لا - لا تمثل إلا جانبًا من عالم الاقتصاد.
يقول الأستاذ محمد الأخضر بن حسين: "إن تراث المجتمعات العربية الإسلامية كميدان هامٌّ ينبغي أن يُخَصَّ باقتراب سليم وعلمي في ذات الوقت، نحن لسنا بحاجة لا إلى المدح ولا إلى التحقير (الذم) الضمني أو الصريح لهذا الرصيد الثقافي والعلمي الذي بواسطته ظلت لمدة قرون تسيِّر التشكيلات الاجتماعية المتعاقبة في هذا الجزء من العالم"، وقال أيضًا: "هذا الفكر الاقتصادي هو فكر اقتصادي من نوع سلعي، ولم نعثر من خلال قراءتنا على تأمل حول الاقتصاد الطبيعي، فهذا هو إذًا المحور الرئيسي لذلك الفكر، وهو يتنوع؛ أي: إنها تكتشف أقطاب تأملها ومصالحها، وذلك حسب مختلف جوانب النشاط السلعي، فالميادين التي يغطيها إذًا تتعلق بالنقود، والتجارة وتنظيمها".
ولأخذ نظرة صحيحة عن الاقتصاد من اللازم الرجوع إلى أمهات الكتب: في الدرجة الأولى الكتاب والسنة، ثم يليها التأليف التي تعطي الاقتصاد صبغته الأخلاقية ومختلف المدارس المذهبية التي تقترح تقنين الأفعال الاقتصادية للدولة والأفراد انطلاقًا من تصورها لتفسير النصوص، وهذا بطبيعة الحال في أبواب المعاملات الاقتصادية؛ مثل: البيوع والشركات والزكاة؛ إلخ.
هناك نوع آخر من المؤلفات المتخصصة في الأموال والحياة الاقتصادية وتنظيم الدولة واقتصادها، وتعين على تدقيق كثير من المفاهيم وتطلعنا على جوانب متعددة من الواقع الاقتصادي، كما تحتوي هذه الأعمال على تأمل كامل حول الضرائب وإجراءات توزيع ناتج النشاط الاقتصادي، نذكر هنا كتاب (الأموال) لأبي عبيد القاسم بن سلام، وكتاب (الخراج) للقاضي أبي يوسف، وكتاب (الخراج) ليحيى بن آدم القرشي، وكتاب (تنظيم الدولة) لصاحبه نظام الملك أو مؤلَّف الماوردي بعنوان (الأحكام السلطانية)، ولا ننسى كتاب (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية)؛ لشيخ الإسلام ابن تيمية، ويرى د. عبدالمجيد مزيان أن هذه الكتب - وإن كانت من الأمهات التي تنتسب إلى الفقه - فإنها لا تخلو من تدقيقات وملاحظات واقعية تارة، وأخلاقية تارة أخرى، ولا يمكن للباحث أن يستغني عنها، ليقارن بين التشريع والأوضاع الاقتصادية المتفقة مع الشرع أو المخالفة له.
وهناك كتب حول الممارسة الاقتصادية، وخاصة منها تنظيم التجارة الداخلية؛ منها مؤلف الدمشقي بعنوان: "كتاب محاسن التجارة"، كما أنه يمكن إضافة كتب الحسبة إلى هذه الفئة، سواء منها ما كُتب في الشرق مثل: "معالم القربة في أحكام الحسبة"؛ لمحمد بن محمد بن أحمد القرشي المعروف بابن الإخوة، و"الحسبة في الإسلام" لابن تيمية، أو في الغرب مثل: كتاب "تحفة الناظر وغنية الذاكر في حفظ الشعائر وتغيير المناكر" لمحمد بن أحمد العقباني، فإنها تعطينا صورة حية عن الصنائع في المدن الإسلامية، وعن التنظيمات الإدارية التي تسير الاقتصاد، كما تعطينا في بعض الأحيان نظرة عن المقاييس والمكاييل والنقود المتعامل بها، وكل هذا بالإضافة إلى النظريات الفقهية المتعلقة بالأموال والمعاملات المتعددة في أمصار العصر الوسيط.
وزاد الأستاذ محمد الأخضر بن حسين: مؤلفات ذات مستوى نضج نسبي، مثل: مقدمة ابن خلدون، ومؤلفات المقريزي كـ"إغاثة الأمة بكشف الغمة"، و"شذور العقود في ذكر النقود"، وكذلك كتاب "الخطط"، ولا ننسى كتب التاريخ؛ مثل: كتاب الطبري واليعقوبي والمسعودي بصفتهم المؤرخين الأولين، وكذلك كتب الرحالين والجغرافيين الذين يمزجون التاريخ بوصف المدن والأمصار، فإنها بالغة الأهمية لأنها تكاد تكون متخصصة في الجغرافيا البشرية، وفي معاش الأمم، وفي وصف طرق التبادل التجاري على الخصوص في إطار العلاقات الخارجية بين الدولة الإسلامية وباقي الأجزاء العالم، كما ذكره كلود كاهن (Claude Cahen) بأنه لا يمكننا، لطبيعة الموضوع أن نستقصي كل مؤلفات الأقدمين التي تنبئ عن الواقع الاقتصادي، ولسنا نذكر هنا إلا نماذج منها، مخافة التطويل، ويجدر الإشارة إلى أن هناك دراسات وبحوثًا قام بها بعض المستشرقين وطائفة من علماء الشريعة المعاصرين أو مَن حَذا حَذْوهم من المتخصصين في الحضارة الإسلامية مثل أبي زهرة،، وضياء الدين الريس، وعلال الفاسي، والنبهان، ومالك بن نبي، والأستاذ محمد الفائز، على سبيل المثال لا الحصر.
الخاتمة:
ولا يخفى علينا أن التعليم الإسلامي كله في القرآن والسنة يدعو إلى الحلول الوسطى دائمًا؛ قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143].
وهذه محاولة محتشمة للكشف عن آفاق جديدة في كيفية تشغيل الطاقات الاجتماعية، آفاق يتأتى الانطلاق منها لاقتصاد يمكِّن المسلم من مواجهة ظروف التخلف، والانحطاط، وضرورات العصر في الحدود المشروعة، على كتاب الله وسنة رسوله.
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم