د. عيسى إبراهيم
إنَّ فرضَ الزكاة يمنع المجتهدين في عصرِنا هذا مِن القول بإجازةِ الفوائد المعتدلة؛ إذ لا مصلحةَ لصاحب المال، إن هو تقاضى ثمرةً ثابتةً لا تبلغ مقدارَ الزكاة؛ فشُبهة المصلحةِ مُستبعَدة.
وأمَّا الضرورةُ فلا يقول بها إلا مكابرٌ يُريد الجدلَ وحسب؛ إذ ما هي الضرورةُ التي تُلجِئ صاحبَ المال إلى أن ينميه بالرِّبا، وعندَه وسائلُ الكسبِ المشروع أجْدَى له؟ فإن كان ضعيفًا أو سفيهًا تولَّى ذلك عنه وكيلٌ أو شريك، وكذلك إنْ كانت امرأةً، لا تقدر على تنميةِ المال بجهدِها المباشِر، فإنَّ في وُسعها أن تشاركَ أو أن تتخذَ وكيلاً عنها، ثم إنَّ في الصورِ الحديثة مِن أساليب الاستثمارِ الجَمْعي ما يلائِم هذه الحالات، كشِراء الأسهم واشتراكيَّة الاستثمار، على نحوٍ تقلُّ فيه أو تكثُر أنصبةُ المموِّلين، وَفقًا للنتائج التي تحقِّقها المشروعات.
إذًا قصة المصلحةِ والضرورة مستبعَدة، وعلينا أن نواجِهَ المشكلةَ الأصلية بأسلوب مباشِر، فإذا بها تُثير عددًا مِن الأسئلة المحدَّدة، وبيانها:
1- هل للرِّبا وجودٌ الآن فيما يُعرَف بنُظم النَّشاطِ الاقتصادي المعاصِر، وهل نِظام الفائدةِ هو بعَينِه الرِّبا؟
2- هل استقرَّ نظامُ الفائدة نهائيًّا في البلادِ التي لا تَدين بالإسلام؟ أم أنَّ لهذا النظام بديلاً؟ وهل يُوجَد إلى الآن - مِن العلماء غير المسلمين - مَن يرفُض نظامَ الفائدة على أُسُسٍ علميَّةٍ خالِصةٍ؟
3- إنْ كانتِ الفائدة هي الرِّبا، ومِن ثَم تعيَّن القولُ بتحريمِ أكْل الفوائد؛ فهل هناك أساليبُ عمليةٌ تحلُّ محلَّ هذا النِّظام، بحيث لا تتعطَّل المصالِح، ولا يُحرَم النشاط الاقتصادي مِن مقوِّمات نجاحِه؟
هذه هي الأسئلة التي تواجه الباحثَ على الفور، وكل منها يُثيرُ العديدَ مِن المشكلات العلميَّة والعمليَّة، حتى إذا انتهى القول إلى ترجيح إلغاء الفوائد، أو الإيمانِ بضرورةِ الإلْغاء، عن يقينٍ مستنِد إلى أسباب علميَّة خالِصة، فإنَّ مشكلةً أخرى كبيرةً تواجه المجتمعَ الذي يُريد تنزيهَ معاملاته مِن هذا النِّظام، وتتلخَّص هذه المشكلةُ في مواقفَ لا عهدَ للناس بها، في حضارتِهم المادية الراهنة، ومِن هذه المواقف ما تدلُّ عليه مجموعةٌ أخرى مِن الأسئلة تُضاف لما تقدَّم بيانه؛ ذلك أنه:
4- إذا كان إلغاءُ الفائدة يحقِّق الصالِح الخاصِّ للفَرْد، والصالِحَ العامَّ للجماعة، فكيف يَنتقِلُ المجتمعُ مِن النظام الرِّبوي إلى نِظامٍ منزَّهٍ عنه، وكيف يتسنَّى له تصفيةُ التركة الرِّبوية وتأسيس نِظام جديد؟
5- إذا انقسَم العالَمُ إلى فريقَيْن: أحدهما يُلغي نظامَ الفائدة، والآخَر يستمرُّ في الأخْذ به، فما هي الآثارُ التي تترتَّب على حالةٍ كهذه؟
أولاً: مِن حيثُ التوازن الداخلي للمجتمع الذي يُلغِي الفوائد، واستقرار أحوالِه الاقتصاديَّة في حدودِه الخاصَّة.
وثانيًا: مِن حيثُ الروابط التي تقوم بيْنه وبيْن العالَم الخارجيِّ، وهذا العالَم الخارجي يتألَّفُ مِن بلاد لا تَقبل الفوائدَ، وأخرى تتمسَّكُ بها.
ولعلَّ السؤال الخامس هو أخطرُ الأسئلة جميعًا؛ لأنَّ النجاح الذي يُمكن أن يصادفَه إلغاء الفوائد، محدود مِن غير شك، والله تعالى أعلمُ بخلقِ السماوات والأرض ومَن فيهنَّ، وهو القائل: ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 116]، ولو أنَّ بعضَ المسلمين ألْغى المعاملاتِ الربويةَ ونِظام الفوائد، لكان في هذا القدْر ما يَكفي لتحويلِ الدعوةِ مِن مجرَّد بحثٍ نظري إلى نِظام قائِم، تشهَد نتائجه بمدَى صلاحيته، وعندئذٍ فقط يُمكن القولُ باتِّساع مجالِ التطبيق، وفي جميعِ الأحوالِ سيبقَى هذا التطبيقُ غيرَ شاملٍ لجميعِ الأُمم؛ ولذلك يُعَدُّ السؤالُ الأخير "الخامس" أهمَّ الأسئلة جميعًا، ولا بدَّ مِن مواجهته "في دوره" بشيءٍ من التفصيل.
قد يَطيب للقارئِ أن يعلمَ بالرأي الذي انتهَى إليه الكاتبُ بعدَ دِراسة متَّصلة، خلالَ عشراتِ السنين، وإذْ أبدأ بذلك مع تأخيرِ ذِكر الأسباب، لا أُحاول التأثيرَ على القارِئ، كما لا أُحاول التعجيلَ بالمسرَّة، كما يقول رِجال اللُّغة، وإنَّما أهدِف لأمرٍ آخَرَ فيه مصلحةٌ مشتركة بيْن الكاتب والقارِئ، وبيانها إثارة الاهتمام وتركيزه، أمَّا الرأي الذي يكوِّنه القارئ أخيرًا، فمن حقِّه وحدَه.
عن السؤالِ الأوَّل ونصُّه: هل للرِّبا وجودٌ الآن فيما يُعرَف بنُظم النشاطِ الاقتصادي المعاصِر، وهل نِظام الفائدة هو بعينِه الرِّبا؟
أمَّا الرأي الذي أقولُ به فيتلخَّص في أنَّ فائدةَ رأس المال هي الرِّبا بإجماعِ علماء الاقتصاد، ولئن وُجِد مِن المجتهدين في إصدار الفتاوَى الشرعيَّة - عفا الله عنهم - مَن يرتاب في وَحدةِ الرِّبا والفائدة - في الجوهر وفي الصورةِ - فقدْ آن لهم أن يُراجعوا أنفسَهم حين يُقرِّر العلماءُ في الغَرْب والشرق بأنَّ فائدة رأس المال هي الرِّبا.
لقدْ كان الخلاف بيْن الناس متصلاً حولَ الرِّبا وممارسته، وحولَ تحريمه تحريمًا قطعيًّا أو تخفيفه، وانتقَل الخلاف إلى الفائدةِ، على نحو ما كان بشأنِ الرِّبا.
فلا إجماع للآن على أنَّ نِظام الفائدة ضروريٌّ أو غير ضروري، ضارٌّ أو غير ضار، هذا خلافٌ قائِم نُسلِّم به، ولا يجوز لباحثٍ أن ينكرَه.
ولكن لا خلافَ على أنَّ الفائدة هي الصورةُ الحديثة للربا، ومِن الفوائد القانونيَّة المعتمدة في عصرِنا هذا ما هو أقسَى مِن رِبا الجاهلية، ورِبا العُصور الوسطَى.
إذًا، الفائدةُ هي الربا، ولا إجماع بيْن علماء الاقتصاد على القولِ بضرورتِها أو بصلاحيتها.
بَقِي أن نُشيرَ لأمرينِ يتَّصلانِ بسببٍ قوي، بهذا السؤال، وهما:
(أ) في ظلِّ النُّظم النقديَّة الحديثة - (ويُمكن القولُ بوجودها خلالَ القرنين الأخيرين على الأقل) - يلاحَظ أنَّ الرِّبا "عينًا" قد تضاءَل كثيرًا، ويكاد يختفِي مِن المُعامَلات؛ لذلك حين نتكلَّم عنِ الفوائد في ظلِّ النِّظام النقدي المعاصِر، فنحن نَتكلَّم عن الرِّبا.
(ب) لَم يتعرَّضْ أيُّ كاتبٍ - فيما نَعْلَم - لبحث الفوائدِ والزَّكاة معًا كحُكمين متكاملين من أحكامِ الشريعة، ولهما آثارٌ مباشِرة على النشاطِ الاقتصادي؛ ولذلك حين نقول بأنَّ الخلافَ قائمٌ بيْن علماء الاقتصاد بوجهٍ عام مسلمين وغير مسلمين - حولَ الضرورة والمصلحَة، فإنَّ هذا القول رهينٌ بعزلِ الفائدة وتحريمها، عن الزكاة ووجوبها، فإذا أردْنا أن نبحثَها معًا، فإنَّ الخلاف يتوارَى، ومع ذلك لا أُريد أن أنتفِع الآن بهذا التكامُل - وهو حاسم - بل سأُتابعُ بحثَ التَّحريم لعلَّته في ذاته؛ وذلك لأنَّ قضيةَ إلغاء الرِّبا مجرَّدة عنْ كلِّ اعتبارٍ آخَر، هِي قضيةٌ واضِحة وقويَّة على الأُسس العلميَّة وحْدَها.
السؤال الثاني: هل استقرَّ نِظام الفائِدة نهائيًّا في البلادِ التي لا تَدين بالإسلام، أم أنَّ لهذا النظامِ بديلاً؟ وهل يوجَد إلى الآن - مِن العلماءِ غير المسلمين مَن يَرْفض نظامُ الفائِدة على أُسس علميَّة خالِصة؟
أقول: لم يستقرَّ نِظام الفائِدة في البلادِ الرأسماليَّة ولا غيرها للآن، وإنَّما تجِب التفرقةُ بيْن موقفِ هذه البِلاد في القرْن التاسِع عشرَ (ممتدًّا إلى الحرْب العالميَّة الأولى)، وبيْن الفترات التالية:
ذلك أنَّه فيما بين الحرْبَيْنِ - وعلى الأخصِّ مِن عام 1930 وما بعدَه - كثُرتِ البحوثُ العلميَّة التي تهاجم نِظامَ الفوائد في البِلاد الرأسماليَّة، ولا تَزال بعضُ الجامعات إلى الآن تتوافَر على دِراسةِ المشكلةِ، ولا تَقطع فيها برأيٍ.
وهنا أمرٌ جديرٌ بالالتفات، فالغرب يَعترِف بأنَّ الفائدة هي استمرارُ الربا القديم في صُورةٍ حديثة تتَّفق مع النِّظام النقدي، والغَرْب هو صاحِبُ التجرِبة التي استمرَّت مِن أوائلِ القرن الماضي إلى الآن، فكيف يصحُّ في الفَهم أن يَعودَ الغربُ الرأسمالي مِن عام 1930؛ ليناقش الفوائدَ مِن جديد؟! أوَلَمْ تكُن تجارِبُ مائة وخمسين عامًا أو تَزيد، كافيةً للتسليمِ باستقرارِ نِظام الفائدة في ظلِّ استقرار أنظمةِ النقود؟!
السؤال الثالث: إنْ كانتِ الفائدة هي الرِّبا، ومِن ثَمَّ تعيَّن القولُ بتحريم أكْلِ الفوائد؛ فهلْ هنالك أساليبُ عمليَّةٌ تحلُّ محلَّ هذا النِّظام بحيث لا تتعطَّل المصالِحُ ولا يُحرَم النشاط الاقتصادي مِن مقوِّمات نجاحِه؟
الجواب: نعمْ هنالك أساليبُ عمليَّة تحلُّ محلَّ النُّظُمِ الرِّبويَّة، ونعمْ يستمرُّ النشاطُ على خيرٍ مما شهدتْه البشريَّة للآن.
ولكن هنا تحذيرٌ هام؛ وذلك أنَّ الباحث قد يتَّجه بالظنِّ إلى الشيوعيَّة مثلاً، بوصفها الطَّرَفَ النقيض للرأسماليَّة؛ ليتلمسَ كيف نجَح هذا النظامُ بدون فوائد؟ وهذه وثبةٌ عقليَّة جديرةٌ بالتحكُّم فيها وتطمينِها، وإلا لضاقَ الباحِث بما يَجِده مِن استقرارِ الرِّبا في ظلِّ الشيوعيَّة علاجًا للمشكلة الاقتصاديَّة العالميَّة، وإنَّما كانتْ ثورة بغير الرأسماليَّة، حاربتْ رأس المال والملكيَّة والفائدة.
ثُمَّ عادتْ تتراجع وأجازت طرفًا مِن الملكيَّة واعترفَتْ بنِظام الفائدة، ونَحنُ لا نقول بأنَّ الفائدةَ ضارَّة؛ لأنَّها مِن النِّظام الرأسمالي، وإنَّما نقول لأسبابٍ أخرى لا تدخُل في دَعائمِ المذهَبِ الشيوعي مِن قريبٍ أو بعيد.
السؤال الرابع: إذا كان إلْغاءُ الفائدةِ يُحقِّق الصالِح الخاصَّ للفَرْد والصالِح العامَّ للجَماعة، فكيف يَنتقِل المجتمع مِن النِّظام الرِّبوي إلى نِظام منزَّه عنه؟ وكيف يتسنَّى له تصفيةُ التَّرِكة الربويَّة وتأسيس نِظام جديد؟
أقول: الخُطوةُ الأولى في مراحلِ الانتقال هي تحريمُ خَلْق النقود، على الأفرادِ والجماعاتِ، وبعبارةٍ أخرى قصر هذه الوظيفة على الدولة وحْدَها، كما حدَث في الجمهوريةِ العربيَّة المتحدة، ونسَج غيرُها مِن البلادِ العربيَّة على مِنوالها.
إذًا تأميمُ المصارف، خُطوة بالغةُ الأهميَّة وبعدَها تجيء التفصيلات تباعًا.
السؤال الخامس، وهو أخطرُ الأسئلة وأكثرُها اتصالاً بحاضرِ النَّشاط الاقتصادِي ومستقبلِه.
وقد تولَّى الإجابةَ عنه علماءُ مِن فرنسا مثل "موريس بييه" و"فرانسوا بيرو"، ومن سويسرا مثل "فيرمان أوليس"، ومِن الجامعات الألمانيَّة والإنجليزية عددٌ غيرُ قليل.
وسيجِدُ القارئُ أنَّ الخوف من إلغاءِ الرِّبا - على كلٍّ مِن المعاملات الداخليَّة والدوليَّة - لا يَزيد على وهمٍ صغيرٍ تافه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم