الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع
جاءت الشرائع السماوية بتنظيم حياة الناس في كل مجالاتها. وكان للشريعة الإسلامية الخاتمة تميز وشمول. ومن ذلك تنظيمها للتعامل المالية والاقتصادية بما يكفل الحقوق ويمنع البخس والتخسير.
وفي هذا الإطار جاءت الآيات القرآنية محذرة من الربا مهددة لمن يتعاطونه بأسلوب لا نظير له في القرآن الكريم:﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ [سورة البقرة: 125-126]. إلى غيرها من الآيات الكريمة.
لقد كانت للربا في الجاهلية مفاسده وشروره، ولكن كثيراً من جوانبه الفظيعة وعواقبه القبيحة تتبدى اليوم وتظهر أكثر من أي يوم مضى.
وهاهي الأزمة المالية العالمية في عامنا 1429هـ تصيب اقتصاديات العالم أجمع ويتوالى الإفلاس تلو الإفلاس ليس لبنك بل لدول كإيسلندا وقرب إفلاسها، والضوائق الشديدة لأكثر الدول وفي مقدمتها قائدة النظام الرأسمالي أمريكا حيث اعترف الرئيس الأمريكي بهذا الانهيار وقال: نواجه أزمة مالية خطيرة جداً.. إن اقتصادنا برمته في خطر.
وفي ضوء آيات القرآن الكريم وظلالها تكلم بعض المطلعين على طبيعة الحياة الغربية وما ارتضوه من منهجية اقتصادية تقودهم إلى الانهيار يوماً بعد يوم، وعنه نستفيد بعض الإشارات:
لقد نتج عن النظام الرأسمالي الذي فتح للربا كل الأبواب نظام يوالي سحق البشرية سحقاً، ويشقيها في حياتها أفراداً وجماعات ودولاً وشعوباً، لمصلحة حفنة من المرابين؛ ويحطها أخلاقيا ونفسياً وعصبياً؛ ويُحدث الخلل في دورة المال ونمو الاقتصاد البشري نمواً سوياً.
وقد آل الأمر لأن تتسلط الفئة المتفردة بالمال على الناس بتحكمها في عصب الحياة، لتنال كد الآدميين وعرقهم ودماءهم، في صورة فوائد ربوية لم يبذلوا هم فيها جهداً!.
وما أزمة الرهن العقاري الأمريكية عنا ببعيد. وكذلك عواقب بطاقات الإقراض الربوية (بطاقات الائتمان).
لقد أتى على الناس حين من الدهر يوشكون معه على الاعتقاد بأن النظام الرأسمالي وخاصة الربا هو النظام الطبيعي المعقول، والأساس الصحيح الذي لا أساس غيره للنمو الاقتصادي؛ وأن التقدم الحضاري في الغرب هو من حسنات ذلك النظام.
ولكن جاءت الأمور كما أخبر الله تعالى عن عاقبة الربا ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ [البقرة: 276].
وتأمل هذه الكلمة ﴿ يَمْحَق ﴾ فالمَحْق هو كالمَحْو: بمعنى إزالة الشيء، ومنه محاق القمر ذهاب نوره ليلة السِّرار.
ففي أيام يسيرة متلاحقة إذا بالنظام الرأسمالي الذي مضى عليه عشرات السنين يتهاوى في أسابيع، بل لقد تداعت القيادات السياسية والاقتصادية الغربية لمراجعة النظام الرأسمالي وتأطيره، ومن أبرز هؤلاء الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي تابع انتقاداته للنظام الرأسمالي الذي نقلته عنه وكالات الأنباء ومنها (BBC) ومن ذلك قوله: "إن فكرة وجود أسواق بصلاحيات مطلقة دون قيود، ودون تدخل الحكومات هي فكرة مجنونة. فكرة أن الأسواق دائما على حق هي فكرة مجنونة".
فيا أيها الرأيس: وهل قام النظام الرأسمالي إلا على فكرة الحرية المطلقة لصاحب المال؟!.
لكن لا شك أن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل.
فقد استبان أن النظام الرأسمالي معرض للهزات الدورية المنظمة! وأنه بعيد كل البعد عن أن يكون نافعاً للبشرية كلها.
إن النظام الربوي الذي هو مرتكز الرأسمالية نظام معيب من الوجهة الاقتصادية البحتة، وقد بلغ من سوئه أن تنبه لعيوبه بعض أساتذة الاقتصاد الغربيين أنفسهم؛ وهم الذين نشأوا في ظله، وأُشربت عقولهم وثقافتهم مزاياه المزيفة.
وفي مقدمة هؤلاء الأساتذة الذين يعيبون هذا النظام من الناحية الاقتصادية البحتة «دكتور شاخت» الألماني ومدير بنك الرايخ الألماني سابقاً.
فقد كان قال في محاضرة له: إنه بعملية رياضية (غير متناهية) يتضح أن جميع المال في الأرض صائر إلى عدد قليل جداً من المرابين. ذلك أن الدائن المرابي يربح دائما في كل عملية؛ بينما المدين معرض للربح والخسارة. ومن ثم فإن المال كله في النهاية لا بد -بالحساب الرياضي- أن يصير إلى الذي يربح دائماً! وأن هذه النظرية في طريقها للتحقق الكامل. فإن معظم مال الأرض الآن يملكه -ملكاً حقيقياً- بضعة ألوف! أما جميع الملاك وأصحاب المصانع الذين يستدينون من البنوك، والعمال، وغيرهم، فهم ليسوا سوى أجراء يعملون لحساب أصحاب المال، ويجني ثمرة كدهم أولئك الألوف!.
وليس هذا وحده هو كل ما للربا من جريرة. فإن قيام النظام الاقتصادي على الأساس الربوي يجعل العلاقة بين أصحاب الأموال وبين العاملين في التجارة والصناعة علاقة مقامرة ومشاكسة مستمرة. فإن المرابي يجتهد في الحصول على أكبر فائدة. ومن ثم يمسك المال حتى يزيد اضطرار التجارة والصناعة إليه فيرتفع سعر الفائدة؛ ويظل يرفع السعر حتى يجد العاملون في التجارة والصناعة أنه لا فائدة لهم من استخدام هذا المال، لأنه لا يدر عليهم ما يوفون به الفائدة ويفضل لهم منه شيء، عندئذ ينكمش حجم المال المستخدم في هذه المجالات التي تشتغل فيها الملايين؛ وتضيق المصانع دائرة إنتاجها، ويتعطل العمال، فتقل القدرة على الشراء. وعندما يصل الأمر إلى هذا الحد، ويجد المرابون أن الطلب على المال قد نقص أو توقف، يعودون إلى خفض سعر الفائدة اضطراراً. فيقبل عليه العاملون في الصناعة والتجارة من جديد، وتعود دورة الحياة إلى الرخاء. وهكذا دواليك تقع الأزمات الاقتصادية الدورية العالمية.
ثم إن جميع المستهلكين يؤدون ضريبة غير مباشرة للمرابين، فإن أصحاب الصناعات والتجار لا يدفعون فائدة الأموال التي يقترضونها بالربا إلا من جيوب المستهلكين، فهم يزيدونها في أثمان السلع الاستهلاكية فيتوزع عبؤها على الناس لتدخل في حسابات المرابين في النهاية.
أما الديون التي تقترضها الحكومات من البنوك لتقوم بالإصلاحات والمشروعات العمرانية فإن رعاياها هم الذين يؤدون فائدتها للبنوك الربوية كذلك، إذ أن هذه الحكومات تضطر إلى زيادة الضرائب المختلفة لتسدد منها هذه الديون وفوائدها. وبذلك يشترك كل فرد في دفع هذه الجزية للمرابين في نهاية المطاف.
واليوم... والعالم يتداعى ويئن... فإن من المتعين على البنوك المركزية وعموم البنوك التجارية في العالم الإسلامي أن تبادر بإصلاح أنظمتها المالية، وأن تكف عن الربا وتزيينه، فالسعيد من وعظ بغيره.
وفق الله الجميع لما فيه الخير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم