عناصر الخطبة
1/ مضار الكسب الخبيث 2/ مبنى الاقتصاد العالمي على المكاسب الخبيثة 3/ آثار التعامل بالربا على الأفراد والمجتمعات 4/ الربا تجارة الموت 5/ الفائدة العالية تُدمِّر قيمة النقود 6/ الآثار الاجتماعية الخطيرة للربااقتباس
إن سيطرة المادة على الناس، وخوفَ الفقر والحاجة، وانعدام القناعة التي سادت في عصر الربا والرأسمالية، ليست أخلاقاً ذميمة فحسب؛ بل هي عقوبات وعذابٌ يتألم الناس من جرائها في عصر انتشار الربا، حتى أصبح الفقير يريد الغنى، والغنيُ يريد أن يكون أكثر ثراء، والأكثرُ ثراءً يريد السيطرة على أسواق المال في سلسلة لا تنتهي من الجشع وحبِّ الذات، وكراهية المنافسين. وصار في الناس مستورون لا يقنعون، وأغنياء لا يحسنون ولا يتصدقون إلا من رحم الله تعالى.
الخطبة الأولى:
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسـوله..
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].
أما بعد: فإن أحسن الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون: إذا تلوثت الأجواءُ أصاب كلَّ من يتنفس الهواء نصيب من هذا التلوث، وإذا تكدرت المياه دخل شيءٌ من هذه الكدرة جوف كلِ شارب منها، وهكذا يقال في كل شيء.
حتى الأموال إذا داخلها الكسب الخبيث أصاب المتعاملين بها بيعاً وشراءً وأخذاً وعطاءً شيءٌ من خبثها وسحتها، فكيف إذا كان مبنى الاقتصاد العالمي على الكسب الخبيث وفق النظرية الرأسمالية التي بُنيت على الحرية المطلقة في الأموال، وقرّرت أن الغاية تبرر الوسيلة، فلا شك -والحالُ هكذا- في تلوث الأموالِ عالمياً بالكسب الخبيث، حتى من حاول الاحتراز والتوقي يصيبُه رذاذه وغبارُه؛ مصداقاً للحديث الذي رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ليأتين على الناس زمان لا يبقى فيه أحد إلا أكل الربا، فإن لم يأكله أصابُه من غباره» (أخرجه أبو داود 3331، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي).
إن المعاملاتِ المالية العالمية في عصر التقدم والحضارة منغمسة في أنواع الربا والكسب الخبيث، الذي غطى غبارُه جميع أنواع الكسب والاتجار، ومن جرائه نزعت البركات، وحلت العقوبات (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) [البقرة: 276]، وفي الحديث الصحيح قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قُل» (أخرجه الحاكم 2/37 وصححه ووافقه الذهبي)، والواقعُ يشهد لهذه الحقيقة التي قررتها نصوصُ الشريعة.
أما نزعُ البركات: فالأكثر يشتكي منه في عالم اليوم، سواء على مستوى الأفراد أم على مستوى الأمم. فرغم اختراع الآلة، واستغلالِ ثروات الأرض، وتنوع الزراعات والصناعات، التي أصبح الإنسان بها ينتج في اليوم ما لم يستطع إنتاجه في سنوات من قبل؛ حتى صارت أرقامُ الإنتاج الزراعي والصناعي أرقاماً عالية، إلا أن أكثر سكانِ الأرض يعيشون فقراً، ولا يجدون كفافاً. وفي كلِ يوم يموت منهم جموع من الجوع والمرض، فأين هي المنتجات الزراعية والصناعية؟! ولمَ لم تسدَّ جوع الملايين من البشر وهي تبلغ الملايين من الأطنان؟! فما كانت قلةُ إنتاج إذاً؛ ولكنها قلةُ بركة فيما ينتجون ويزرعون ويصنعون.
وأما حلولُ العقوبات: فإن العقوبات المحسوسة المشاهدة التي يعاني منها البشر في عصر الربا من التنوع والكثرة بما لا يُعد، وهناك عقوباتٌ معنوية لا يحس بها أكثر الناس، ومنها: استعبادُ المادة للإنسان بحيث تحولت من كونها وسيلة لراحته وهنائه إلى غاية ينصب في تحصيلها، ثم يشقى بحفظها، ويخشى فواتها، وتلك عقوبةٌ أيُّ عقوبة!!
إن الإنسان في العصر الرأسمالي الذي أساسُه الربا يريد الاستغناءَ بالأشياء، فإذا ما استغنى بها سيطر عليه هاجسُ زوالها، بينما كان في السابق يستغني عما لا يستطيع تحصيله، ويقنعُ بما كتب له؛ فيرتاح باله، وتطمئن نفسه.
إن سيطرة المادة على الناس، وخوفَ الفقر والحاجة، وانعدام القناعة التي سادت في عصر الربا والرأسمالية، ليست أخلاقاً ذميمة فحسب؛ بل هي عقوبات وعذابٌ يتألم الناس من جرائها في عصر انتشار الربا، حتى أصبح الفقير يريد الغنى، والغنيُ يريد أن يكون أكثر ثراء، والأكثرُ ثراءً يريد السيطرة على أسواق المال في سلسلة لا تنتهي من الجشع وحبِّ الذات، وكراهية المنافسين. وصار في الناس مستورون لا يقنعون، وأغنياء لا يحسنون ولا يتصدقون إلا من رحم الله تعالى.
وإذا ما استمر العالم على هذا النحو من تفشي الربا، وارتباطِ المعاملات المالية به فإن النهاية المحتومة: ازدياد الفقر والجوع حتى يهلكَ أكثر البشر، واجتماع المال في خزائن فئة محدودة من كبار المرابين؛ مما حدا بأحد الاقتصاديين الأوربيين أن يسمي الربا بتجارة الموت؛ حيث يقول: «الربا تجارة الموت، ومن شأنه أن يشعل الرأسماليون الحرب وإن أكلت أكبادهم في سبيلِ مضاعفة رأسِ المال ببيع السلاح» (انظر: مجلة الاقتصاد الإسلامي، عدد (91) جمادى الآخرة 1409هـ ص: 7).
وما حطم قيمة الأوراق النقدية، وقضى على أسعار العملات إلا الربا الذي يقوم عبره عصابةٌ من كبار المرابين بضخ المالِ في عملة من العملات، ثم سحبه لتقع قيمتُها من القمة إلى الحضيض فيصيب الفقرُ شعوباً وأمماً لا تملك غير عملتها التي أصبحت لا تساوي شيئاً.
إن المتخصصين في الاقتصاد يقررون أن النقود هي دماءُ الاقتصاد، والنقودُ السليمة هي التي تجعلُ الاقتصاد سليماً؛ ولكن نقودَ العالم الحالية مريضة بالتضخم الناتج عن الربا، ولا يمكن علاجها إلا بمعالجة التضخم، ولن يعالجَ إلا بإلغاء فوائد الربا. (انظر: مجلة الاقتصاد الإسلامي عدد 194، محرم 1418هـ ص57).
ويكشف هذه الحقيقة عالم من علماء الاقتصاد في البلاد الغربية فيقول: «كلما ارتفعت الفائدة تدهور النقد، فكما يؤدي الماء إلى رداءة عصير البرتقال أو الحليب تؤدي الفائدة إلى رداءة النقود، قد يبدو الأمر أننا نسوقُ تعبيراتٍ أدبية أو أننا نبسطُ المسألة ونسطحها؛ ولكن الحقيقةَ أن هذه العبارة السهلة البسيطة هي في الواقع معادلةٌ سليمةٌ وصحيحة تدل عليها التجربة ويمكن إثباتها، فالفائدة العالية تُدمِّر قيمة النقود، وتنسف أيَّ نظامٍ نقدي مادامت تزيدُ كل يوم، وتتوقفُ سرعةُ التدمير وحجمُه على مقدارِ الفائدة ومدتها» اهـ(قائل ذلك هو الاقتصادي الألماني جوهان فيليب بتمان مدير البنك الألماني فرانكفورت في دراسة له بعنوان: كارثة الفائدة، ترجمها الدكتور أحمد النجار ونشرت في مجلة الاقتصاد الإسلامي عدد 194، ص: 54).
ولست أظنُ أن كلامه يحتاج إلى إثبات؛ لأن التداعيات الاقتصادية التي دمّرت عملات دولِ الشرق أكبرُ دليل على ذلك. وهكذا صارت عاقبة الربا وإن كثر إلى قلٍ، وما هذه إلا صورةٌ من صورِ المحق التي يسببها الربا لأموال المتعاملين به.
وبسببِ انتشاره في التعاملاتِ المالية أصبحت البورصات العالمية وكأنها صالةُ قمار واسعة، ليس الأمرُ فيها يتصل بالمقامراتِ غير المحسوبة فحسب، وإنما هناك من يبيع دائماً ما لا يملك، ومن يشتري من دون أن يدفع ثمناً، ومن يتظاهر بأن هناك أسهماً لشركات وما هي في الواقع بشركات، ومن يقيد بالدفاتر ملياراتٍ كبيرة دون أن يراها، ودون أن يقابلها رصيدٌ من أي نوع.
إنها الفائدة المسئولة عن المصائبِ الكبرى في النظام النقدي العالمي، وهي المسئولة عن التضخم، وهي المسئولة عن ضياع الأموال وعن عجز دفع المدينين ديونهم. (انظر مقال: الفائدة والركود الاقتصادي في بلاد المسلمين للدكتور جعفر عبدالسلام في مجلة الاقتصاد الإسلامي عدد 184 ربيع الأول 1417هـ ص68).
فمتى يدركُ الرأسماليون أن نار الربا التي يكتوي بها المقترضون عائدةٌ عليهم بعد انتهائها منهم في يوم من الأيام ليصطلوا بها؟! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) [البقرة: 275- 276].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) [البقرة: 278- 279].
أيها المؤمنون: تسودُ الأنانية، وحبُ الذات، وانعدامُ الرحمة كل المجتمعاتِ التي ينتشر فيها الربا؛ فالموسرون المرابون يُقرضون الفقراء المحتاجين بفوائد تزداد مع طول المدة، وشدة الحاجة، مما يجعلهم عاجزين عن السداد، والنتيجة النهائية إما أن يسرقوا لسداد القروض الربوية، وإما أن تصادر أملاكهم وتباع للمقرضين ليعيشوا وأسرهم بقية أعمارهم على قارعة الطريق يتكففون الناس، أو في الملاجئ والدور الاجتماعية؛ مما يكون سبباً في قتل كرامتهم، وحرمان المجتمع من عملهم وإنتاجهم.
إن الربا هو السبب الرئيس لانتحار كثير من المقترضين، وانتشار الجريمة والانتقام بين أصحاب رءوس الأموالِ وكبار المرابين، فضلاً عن كون الربا سحتاً يأكله صاحبه ويبني به جسده وأجساد أهله وأولاده، وهو من السبع الموبقات، وصاحبه مستحقٌ للعنة الله –تعالى-، ويحشر يوم القيامة مجنوناً يتخبط، ولو لم يكن فيه إلا أن المتعامل به محاربٌ لله تعالى ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- لكفى في الزجر عنه، والتحذير منه.
فاتقوا الله ربكم، واحذروا خبيث الكسب، وخبيث الصدقة؛ فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وأيما جسد نبت من سحت فالنار أولى به.
ألا وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم