اقتباس
لكن بعد هذا الحرمان تأتي مكافأة الصائمين الذي امتنعوا عن شهواتهم من أجل مرضاة ربهم متمثلة في صورة فرحتين؛ فرحة دنيوية وفرحة أخروية، كما قالها الحبيب النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه"...
بعد ثلاثين يومًا كاملة من رمضان صامها المسلمون وقاموها وتنعموا بروحانياتها، بعد أن تكبدوا مرارة الجوع والعطش والحرمان؛ ثلاثون يومًا كاملة ما طعموا طعامًا ولا شربوا قطرة ماء بالنهار أبدًا، وإنه لأمر شاق عسير ربما لا يشعر به كمال الشعور ولا يحس به تمام الإحساس إلا المكدودون المطحونون الذين يعملون في شدة الحر -التي هي من فيح جهنم-، والذين تقتضي أعمالهم نصبًا وحملًا للأثقال... بل حتى المترفون والمنعمون والمرفهون ومن يعملون في أماكن مكيفة ويتنقلون في سيارات مريحة يعانون بدورهم من حرمان الصيام ويذوقون مرارته -وللحرمان مرارة-، فما بالك بالأولين؟!
وإنه لأمر أشارت إليه أحاديث نبوية عديدة، فمنها حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقول الله -عز وجل-: الصوم لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي"(متفق عليه)، وعند أحمد: "يدع الطعام من أجلي، والشراب من أجلي، وشهوته من أجلي، فهو لي وأنا أجزي به"، وعند الطبراني: "يدع امرأته وشهوته وطعامه وشرابه من أجلي"؛ فخص من الشهوات شهوة النساء وقدَّمها.
لكن بعد هذا الحرمان تأتي مكافأة الصائمين الذي امتنعوا عن شهواتهم من أجل مرضاة ربهم متمثلة في صورة فرحتين؛ فرحة دنيوية وفرحة أخروية، كما قالها الحبيب النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه"(متفق عليه).
وموعدنا اليوم مع الفرحة الأولى؛ الفرحة الدنيوية، فرحة العطاء بعد المنع، والبذل بعد الحرمان، والعودة إلى اللذائذ والشهوات الحلال التي امتنعنا عنها نهار شهر كامل، إنها فرحة الفطر بعد الصيام، فرحة "عيد الفطر المبارك".
وسل الأطفال عن مذاقها، ولو وُهِبوا لسانًا فصيحًا وخيالًا فسيحًا فسيقولون لك: لكأننا في فقاعة عظيمة من خام السعادة والسرور والفرح والحبور، وقد صُنعت جدرانها وسماؤها وأرضها من لؤلؤ شفاف يرى من بداخلها جميعَ ما حوله، وهذه الفقاعة مليئة بألوان الأطعمة والأشربة، ومزدحمة بالألعاب والمسليات، وهي فوق ذلك سابحة في فضاء الكون الشاسع والذي لم يعد مظلمًا كعادته بل تتناثر فيه الأزهار المشعة للأنوار، والحيوانات اللطيفة مرتدية أثوابًا مزركشة شريفة، والأراجيح الملونة التي تطير محلقة خافقة ثم تعود حالمة متأنقة...
وكفانا أن الله -عز وجل- قد سماها "فرحة" في الحديث القدسي السابق، ولقد أذن النبي -صلى الله عليه وسلم- لمظاهر هذه الفرحة أن تظهر في المجتمع الإسلامي وتنتشر مبيِّنة سماحة الإسلام؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا بكر، إن لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا"(متفق عليه).
***
لكن مع تمام إقرارنا أن الفرحة في عيدنا هذا من شعائر الدين، فإنه رغمًا عنا، وليس باختيارنا، لا تستطيع البسمة أن تكسو ملامحنا، ولا تقدر السعادة أن تعرف الطريق إلى قلوبنا -اللهم إلا فرحة إتمام الطاعة-: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[يونس: 58].
ولماذا تخاصمنا السعادة في عيدنا هذا؟! وأجيب: انظر إلى أرض غزة وفلسطين تعرف السبب! انظر هناك وسترى العجب، سترى أكثر من مليونين من البشر، يعتبرهم الكثيرون من غير البشر؛ فلا يطعمونهم ولا يسقونهم ولا يكسونهم! بل حرموهم من جميع مقومات الحياة، وإذا حنت عليهم بعض النفوس على استحياء فأدخلوا لهم جِوالًا من الدقيق الأبيض، أبى من احتلوا أرضهم إلا أن يعودوا به أحمرًا؛ مخضبًا بدمائهم! أو لا يرجعوا به أصلًا!
هناك مليونان من البشر يبادون بدم بارد، أمام أسماع وأبصار العالمين، تنقل معاناتهم الشاشات، يصرخون ويستجيرون وما من مجيب، هنالك آلاف الثكالى واليتامى والأرامل والمشردون:
هنالك ألف باكية تنادي *** أفيقوا يا أحبتنا أفيقوا!
يُدنس عرض مسلمة وترمى *** ويَلطم وجهها وغد حليق
وتتبعها ملايين الضحايا *** تذوق من المآسي ما تذوق
وكم من مسجد أضحى ركامًا *** وفي محرابه شب الحريق
تعذبني نداءات اليتامى *** وصانع يتمهم حر طليق
وأمتنا تنام على سرير *** تهدهدها المفاتن والفسوق
كتاب الله يدعوها ولكن *** أراها لا تحس ولا تفيق
أقول لأمتي والليل داج *** بكفك لو تأملت الشروق
***
لكننا نعود فنقول: إن إظهار شعائر الدين نصرٌ لإخواننا المستضعفين؛ فنبكر إلى مصلى العيد محافظين على سننه وآدابه، مرتدين أجود ما نجد من الثياب؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلبس يوم العيد بردة حمراء"(رواه الطبراني في الأوسط، وجوَّد الألباني إسناده).
ونأكل تمرات وترًا قبل الخروج إلى المصلى؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات" وفي زيادة: "ويأكلهن وترًا"(رواه البخاري).
ونكبر في طريقنا إلى المصلى: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله... الله أكبر الله أكبر ولله الحمد"، ونصلي صلاة عيدنا، ثم ندعو لإخواننا من قلوبنا بالتثبيت والنصر والتمكين، وبكشف الكرب وزوال الهم، وأن يجعله الله -عز وجل- عليهم عيد خير ورفعة وطمأنينة وأمان.
ثم من واجبات العيد أن يكون الفرح بالحلال الطيب المباح، فلا فرج بالتبرج والسفور والاختلاط المستهتر بين الجنسين، ولا فرح بالاجتماع حول الأفلام والمسلسلات الماجنة، ولا فرح بالتحلق حول موائد الغيبة والنميمة... بل افرحوا فرحًا حلالًا.
ثم إن العيد فرصة سانحة لصلة الرحم والتقارب بين المسلمين وإزالة الشحناء من القلوب والتصافي والعفو والصفح والامتثال لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وكونوا عباد الله إخوانًا)[متفق عليه].
ثم سنن العيد بعد ذلك كثيرة، نستقيها من هذه الباقة من خطب خطبائنا في ملتقى الخطباء، فإليك:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم