اقتباس
وقع في هذا الشهر أحداث عظام في هذه الأمة، وفي غيرها من الأمم، كان لها آثار عظيمة ونتائج مؤثرة، ومن أهم ما حدث في شهر المحرم، وخاصة يوم عاشوراء، إهلاك فرعون، ونجاة نبي الله موسى...
شاء الله الرحيم الرحمن أن ينقل عباده بين موسم طاعاته، ويفتح لهم أبواب فضله، وأغدق عليهم بآلائه ومننه؛ فمع رحيل عام وبداية عام جديد، موسم للمغفرة والرحمات والعفو عن الزلات، وقد وسّع الله لعباده أبواب المغفرة والرحمة في نهاية العام وأوله، فشرع سبحانه لعباده مواسم عشر ذي الحجة في ختام العام؛ ففتح فيها عباده كلهم حجاجًا وغير حجاج أبواب الرحمات، ويرجى لمن صام يوم عرفة أن يغفر الله له ذنوب عامين، ويبدأ المسلم عامه الجديد بصوم يوم عاشوراء؛ ليغفر الله له ذنوب سنة؛ فما أعظم فضل الله على عباده؟! وما أوسع رحمته -جل وعلا-؟!
وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- شهر المحرم، وحث على الإكثار من الصيام فيه، وسماه شهر الله، وهذا يبرز شيئًا من فضائل شهر المحرم؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ المَكْتُوبَةِ الصَّلاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وأفْضَلُ الصِّيامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضانَ شَهْرُ الله المُحَرَّمُ"(رواه مسلم:1163).
وقد وقع في هذا الشهر أحداث عظام في هذه الأمة، وفي غيرها من الأمم، كان لها آثار عظيمة ونتائج مؤثرة، ومن أهم ما حدث في شهر المحرم، وخاصة يوم عاشوراء، إهلاك فرعون، ونجاة نبي الله موسى -عليه السلام-.
إن هذا الحدث يوم عظيم من أيام الله -تعالى- ينبغي علينا أن نتذكره ونتأمل فيه، قال -سبحانه-: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ)[إبراهيم:5]، وإن من يتأمل الوقائع والأحداث عبر السنين والأعوام، تيقن أن الله -تعالى- يداول الأيام بين الناس، فقد ظن جبابرة كثيرون أن الدنيا قد استسلمت لهم، وأنهم عليها غالبون، وأن القرار لهم، والغلبة والسيطرة لهم، فهذا فرعون علا في الأرض وأفسد فيها، يستحي النساء، ويقتل الرجال، ويشرد ويدمر، ويقتل، ورفع نفسه فوق منزلته، وظن أنه ربّ يعطي ويمنع، ويحيي ويميت، ويفعل ما يحلو له، غير آبهٍ بأحد، فلما استكبر وطغى، وفجر وبغى، أخذه الله نكال الآخرة والأولى، وأهلكه ودمره ودمّر جنده.
إن في إهلاك الله للظالمين والطغاة آية كونية، وراحة للبلاد والعباد، وإظهارًا لقدرة الرب سبحانه في خلقه، وعظمته وجلاله وكبريائه؛ يملي للظالمين والطغاة، فتعلو كلمتهم، وتفشو قوتهم، وتعظم سطوتهم، حتى يظنوا في أنفسهم السيادة والعلو والرفعة والعزة والمنَعَة، وأنهم في ممالكهم مُمَكَّنُون، وفي عسكرهم وحرسهم آمنون، يأمرون وينهون، ويقربون ويعزلون، الخير ما استحسنوه، والشر ما عادوه، آراؤهم في الاقتصاد سديدة، وفي العلوم والفنون غير مسبوقة، .. وخلفهم همج رعاع يجيدون صناعة الطواغيت، فيؤلهون هؤلاء الطغاة، ويرفعونهم فوق قدرهم.. وعندها تحق عليهم كلمة الرب العظيم -سبحانه-، فيهلكهم ويجعل إهلاكهم من محامده وفضله -سبحانه- على خلقه، (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الأنعام:45].
فضلاً عن أن إهلاك الظالمين يفتح باب الأمل أمام المستضعفين لنصر من الله وفتح قريب، قال -جل وعلا-: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ)[إبراهيم:5-6]، فهل تأخذ الأمة من ذلك عبرة، حتى لا يعتريها كسل، ولا يتسلط عليها يأس؟!
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما هاجر إلى المدينة وجد اليهود يعظمون يوم عاشوراء ويصومونه، فكان له موقف وتوجيه في ذلك، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ، وَجَدَهُمْ يَصُومُونَ يَوْمًا، يَعْنِي عَاشُورَاءَ، فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى، وَأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ، فَصَامَ مُوسَى شُكْرًا لِلَّهِ، فَقَالَ: "أَنَا أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ" فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. (رواه البخاري:3397).
فالطاعة أفضل صور شكر المنعم -تبارك وتعالى-، فصام -صلى الله عليه وسلم- هذا اليوم وأمر المسلمين بصيامه، وجعل في صومه أجرًا كبيرًا، فلما سئل -صلى الله عليه وسلم- عن صِيَام يَوْمِ عَاشُورَاء، قال: "أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ" (رواه مسلم:1162).
ولكنه -صلى الله عليه وسلم- أراد لهذه الأمة أن تجمع بين الخيريتين؛ خيرية طاعة الله -سبحانه- وشكر نعمة إهلاك الظالمين وإنجاء المؤمنين. وخيرية مخالفة المشركين، فنصح للمؤمن أن يخالف المشركين في احتفائه بهذا اليوم، فعن عَبْد اللهِ بْن عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قال: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ"، قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. (رواه مسلم:1134).
فإذا أرادت هذه الأمة خيرية وسعادة ورفعة، فلتحرص على متابعة سُنة النبي الأمين -صلى الله عليه وسلم-، وعلى مخالفة سُنَن المشركين، ولتعلم أن المشركين أهل غواية وإضلال، يحرصون على نشر الفساد والشر، وإيقاع هذه الأمة في حبائل المنكرات، فهل تنتبه الأمة في ذكرى عاشوراء إلى مصدر عزها وخيريتها المتمثل في جمعها بين طاعة ربها، ومخالفة سبل الضالين والمجرمين من أصحاب الجحيم؟!
ومن الأحداث الجسام في هذا اليوم أيضًا ما أصاب الأمة المسلمة من مقتل أحد أفاضلها وكبرائها، فقد فجُع المسلمون باستشهاد الحسين بن علي -رضي الله عنهما-، ولا شك أن مقتله -رضي الله عنه- مصيبة، يفرح بها العدو ويُساء بها المحب، وقد ساء أهل السنة مقتل ريحانة النبي -صلى الله عليه وسلم- وابن ابنته، ولم يفرح بهذه المصيبة إلا المفسدون والخونة من السبئيين وغيرهم.
وإن الشرع المطهر علمنا أن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ومع ذلك يحدث في هذا اليوم من منكرات الروافض الشيء الكثير، ويحدث فيه من البدع والمحدثات أمور كثيرة، لا يرضاها شرع ولا يقرها دين، وإنما هي أفعال جاهلية وأمور باطلة، لا ترد ميتًا ولا تنصر حقًّا، بل تولد حقدًا وتنشر جهلاً وبدعًا، فهل يستطيع عقلاء الأمة جمع كلمتها وتوحيد صفها قبل أن تخترم بنيتها وتضيع قوتها؟!
ومن أجل تذكير المسلمين بفضائل شهر الله المحرم، وبيان بعض الأحداث التي وقعت فيه، وضعنا بين يديك أخي الخطيب الكريم مجموعة خطب منتقاة توضح أهم الأعمال الصالحة في هذا اليوم العظيم يوم عاشوراء وبينا السنن والمبتدعات في هذا اليوم، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في الأقوال والأعمال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم