عناصر الخطبة
1/ قصة موسى -عليه السلام- مع فرعون 2/ فضل صيام عاشوراء والسنة في ذلك 3/ بعض الدروس والعبر المستفادة من قصة موسى -عليه السلام- مع فرعوناقتباس
في تلك الساعة الرهيبة، وقد زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، تصل الجنود الغاشمة والحشود المجندة، بقيادة فرعون الطاغية، الذي علا في الأرض، وتجبر وعتى، وقال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) [النازعات: 24] يصل هذا المجرم اللعين مع شروق الشمس إلى...
الخطبة الأولى:
الحمد لله -تعالى- رفع الأمة بالإيمان، وأعزها بالقرآن، أحمده وأشكره، لا رب سواه ولا نعبد إلا إياه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الناس: هنالك وعلى ساحل البحر يشتد الكرب، وتتعاظم المحنة، ويغشى النفوسَ رعبٌ وفزع، تضيق منه الصدور، وتطير العقول، إذ يترآى الجمعان، وينكشف الفريقان، ويُبتلى الإيمان، ويطيش الطغيان.
هنالك يقبل موسى -عليه السلام- مجللاً بالعبودية الحقه، على جبينه شمَم اليقين، وفي قلبه التوكل الحي؛ لم يخش البطش ولم يخف الدوائر ولم يبالِ بالملمات!
وفي تلك الساعة الرهيبة، وقد زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، تصل الجنود الغاشمة والحشود المجندة، بقيادة فرعون الطاغية، الذي علا في الأرض، وتجبر وعتى، وقال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) [النازعات: 24].
يصل هذا المجرم اللعين مع شروق الشمس إلى ضفة البحر لاستئصال موسى ومن معه من المؤمنين، ولكي يقيم نفوذه، ويطمس عبودية تكون لسواه، قال تعالى: (فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ) [الشعراء: 60].
وقد كان موسى -عليه السلام- قد خرج فاراً ببني إسرائيل بأمر الله -تعالى-، لما حانت ساعة العذاب والنكال في فرعون وقومه، فتبعهم فرعون في جيش عرمرم، وزحف شديد، قد علاهم الحقد، وتكتنفهم الحنق!
وعندما حانت الساعة قال أصحاب موسى وقد خالطهم الخوف: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء: 61] يعني قد اضطروا إلى البحر، وليس لهم مناص من سلوكه، وخوفه، البحر من أمامهم، وفرعون الطاغية من خلفهم، والجبال عن أيمانهم وشمائلهم، وحينئذ يطلق موسى -عليه السلام- كلمة التوحيد واليقين، التي تقطع كل الأسباب، ولا تبقي إلا سبب ربنا -تبارك وتعالى-: (كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 62].
وقد كان موسى في الساقة أي المؤخرة، فتقدم إلى المقدمة، ونظر إلى البحر، وهو يتلاطم بأمواجه، ويقول: هاهنا أُمرت، فيقول له بعض صالحي قومه: يا نبي الله أهاهنا أُمرت؟ فيقول: نعم، فلما تفاقم الأمر، وضاق الحال، وانقطعت الحيل أمر الله كليمه موسى: (أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ البَحْرَ)، فإذا بهذه العصا تقلب الأمور بإذن الله -تعالى-، وتعصف بالتحديات، وتدمر الضالين الكافرين.
(وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) [المدثر: 31]، انفلق البحر بإذن الله -تعالى- وقدرته، وصار اثني عشر طريقاً، قال تعالى: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ البَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ) [الشعراء: 63].
فأصبح ماء البحر قائماً مثل الجبال، مكفوفاً بالقدرة العظيمة، الصادرة من الذي يقول للشيء كن فيكون سبحانه وتعالى.
وقد قيل: إنه صار في البحر شبابيك ليرى بعضهم بعضا، وليس ذلك على الله بعزيز، ثم أمره الله -تعالى- أن يجوز ببني إسرائيل، فانحدروا فيه مسرعين مستبشرين، وقد بَرق الأمل، وجلت السعادة، وولدوا ميلاداً جديداً وقد شاهد قوم موسى ما يحيّر الناظرين، ويهدي قلوب المؤمنين.
ولما جاوزوه، وجاوز آخرهم، وانفصلوا عنه، ولم يتخلف أحد، وصل فرعون وجيشه فأراد موسى -عليه السلام- أن يضرب البحر بعصاه ليرجع كما كان، فأمره ربه القدير ذو الجلال والإكرام أن يدعه على حاله كما قال: (وَاتْرُكِ البَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ) [الدخان: 24] أي اتركه ساكناً على هيئته لا تغيره عن هذه الصفة.
فلما تركه بأمر الله، وانتهى فرعون إليه، ورأى ما رأى، وعاين ما عاين، هاله هذا المنظر العظيم، وتحقق ما كان يتحققه قبل ذلك، من أن هذا فعل رب العرش الكريم، فأجحم ولم يتقدم، وندم في نفسه على خروجه في طلبهم، والحالة هذه حث لا ينفعه الندم، لكنه أظهر لجنوده تجلداً، وحملته النفس الكافرة، والسجية الفاجرة على أن قال لقومه: انظروا كيف انحسر البحر لي لأدرك عبيدي الآبقين من يدي، الخارجين عن طاعتي وبلدي؟ وجعل يوري في نفسه أن يذهب خلفهم ويرجو أن ينجو وهيهات، ويقدم تارة ويجحم تارات.
وقد ذكروا أن جبريل -عليه السلام- هيَّج فرسه، فاضطره للبحر، فدخل فرعون، وتبعه قومه عن آخرهم، فلما استكملوا فيه، أمر الله كليمه موسى فضرب، بتلك العصا البحر، فارتفع عليهم، وعاد بحراً هائجاً، فسحقهم وابتلعهم، ولم ينج منهم إنسان، قال الله -تعالى-: (وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الشعراء: 65-68].
وهكذا انتهت المعركة، ولم يحصل تلاحم، بل دمر الله الكافرين، وانتصرت الوحدانية واستقامت الملة العوجاء، وساد الضعفة المؤمنون بعد أن كانوا مستذلين، وكانت معجزة باهرة، نصر الله بها أولياءه، وخذل أعداءه، وأورث الله القوم المستضعفين أرضهم ومكنهم وأسبغ لهم نعمهم وخيراتهم، قال تعالى: (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) [الدخان: 25-29].
أيها الإخوة الكرام: لقد كان هذا النصر، وهذا الظهور والتمكين في يوم من أيام الله الخالدة، ألا وهو يوم عاشوراء، اليوم العاشر من المحرم، وقد صامه النبي -صلى الله عله وسلم-، وتحرى صيامه، وأمر الأمة بصيامه، ففي الصحيحين من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدم المدنية فوجد اليهود صياماً، يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما هذا اليوم الذي تصومونه؟" فقالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرَّق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فنحن أحق وأولى بموسى منكم" فصامه رسول الله وأمر الناس بصيامه.
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى -رضي الله عنه- قال: "كان أهل خيبر، يصومون يوم عاشوراء، يتخذونه عيداً، ويلبسون نساءهم فيه حُليّهم وشارتَهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فصوموه أنتم"، وفيهما أيضاً ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "ما علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صام يوماً، يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم".
ولأحباب الصيام، فإن هذا الشهر يُستحب الإكثار فيه من الصوم؛ ففي صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل، وأفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم".
والسنة في عاشوراء -يا مسلمون- أن يصام يوماً قبله أو يوماً بعده مخالفة لأهل الكتاب، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع"، وصح عن ابن عباس عند عبد الرزاق والبيهقي أنه قال: "صوموا اليوم التاسع والعاشر، وخالفوا اليهود".
فصوموا -يا مسلمون- هذا اليوم العظيم، وصوِّموه نساءكم وأبناءكم، اقتداءً بنبيكم -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يجب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإسلام: لقد استمعتم إلى هذه القصة، وهي مذكورة في كتاب ربكم في أكثر من موضع، قصّها الله في القرآن ليعلم رسوله، وليثبت فؤاده، وليزيد المؤمنين إيماناً.
فإن هذه الفضة العظيمة توحي وتؤكد أن: "العاقبة للمتقين"، وأن الدائرة على الظالمين، وأن امتداد الباطل يسير، مهما طغى وتجبر، وساد وتعاظم.
وفي القصة: بيان بأن القوة لله جميعاً، وأن قدرته نافذة في كل شيء، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [يس: 82].
وفيها: عناية الله -تعالى- بعباده المؤمنين، وكلاءته لهم، وتأييده لهم بالخوارق والمعجزات، وفيها أن "النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا".
وفيها: تقرير سنة الابتلاء في هذه الحياة، وأنّ الله لا يزال يبتلي عباده، ليمحصهم ويطهرهم، ويحفظ جماعتهم: (وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ) [العنكبوت: 11].
وفيها: فضل التوحيد، والاستسلام في الملمات، وتفويض الأمر إلى الله وحده: (قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 62].
فمهما حمل لنا العدو من دبابات وقاصفات، ومدمرات، فإن الله معنا يسمع ويرى ولا يعجزه، شيء في الأرض ولا في السماء: (فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَداًّ) [مريم: 84].
وفيها: هوان الإنسان وضعفه، وضياعه بلا إيمان واستسلام، فإن سلامة الإنسان في هذه الدنيا وصلاحه بخضوعه للدين بحق وليس للطواغيت أو اللذائذ والشهوات.
ومنها: أن الحياة وزينتها لا تنفع بلا إيمان، وأن مصير اللذة الزوال والذهاب، فلقد أورث الله نعم آل فرعون القوم المؤمنين، ولم تغن القوم المجرمين نعمتهم من الله شيئاً، وفي ذلك إشارة إلى حقارة الدنيا وفنائها.
أيها الإخوة: لقد كانت آية البحر الباهرة لنبي الله موسى -عليه السلام-، ومعه بنو إسرائيل الذين قضوا مع فرعون وملائه عنتاً وذلاً ومهانة، كانت انشقاق البحر آية عجيبة لهم، ومع ذلك لقد لقي موسى منهم بعد هلاك آل فرعون الملاقي والشدائد، كفروا وكذبوا واستكبروا، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رحم الله أخي موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر"، وفي حديث الإسراء قال موسى -عليه السلام- لنبينا -صلى الله عليه وسلم- في تخفيف الصلاة: "إني عالجت بني إسرائيل قبلك أشد المعالجة".
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً) [الأحزاب: 69].
وفي هذا العصر يتسلط بنو إسرائيل "اليهود" على المسلمين في فلسطين يسومونهم سوء العذاب، ويبيدون خضراءهم بمرآى ومسمع المسلمين أجمعين، والمشتكى إلى الله!
ولا يرد عدوان هؤلاء الأوباش إلا أطفال الحجارة الذين هم مبنى العز ومعدن الشرف.
هل من فلسطين مكتوب يطمئنني *** عمن كتبت إليه وهو ما كتبا
وعن بساتين ليمونٍ وعن حُلمٍ *** يزداد عني ابتعاداً كلما اقتربا
فيا فلسطين من يهديك أفئدةً *** ومن يعيد لك البيت الذي خربا
تلفتي تجدينا في مباذلنا *** من يعبد اللهو أو من يعبد الذهبا
ولكننا لن نيأس ولن نذل! ومعنا الميثاق المؤكد، والوعد المبرم قال صلى الله عليه وسلم: "تقاتلون اليهود، فتسلطون عليهم، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر: يا عبدَ الله يا مسلم هذا يهودي خلفي تعال فاقتله".
اللهم انصرنا ولا تنصر علينا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم