اقتباس
وفرح المسلمين في أعيادهم وفي جميع أحوالهم لا يكون إلا بالمباح الطيب الحلال، فاللهم إنا نسألك فرحًا حلالًا، كما نسألك أن ترفع الكرب عن إخواننا المستضعفين في كل مكان وأن تُدخِل على قلوبهم الروح والريحان إنك على كل شيء قدير...
الحمد لله الذي وفقنا إلى الصيام فصمنا، وهدانا إلى القيام فقمنا، وزين لنا الإطعام فأطعمنا، وأعاننا على تلاوة القرآن فختمناه... فمنك يا رب الفضل ومنك يا رب العون ولولا رفدك وعونك وهداك ما صمنا ولا قمنا: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ)[الأعراف: 43].
ففي قلوبنا فرحة وانشراح بإتمام هذه الطاعات، فرحة بصيام نهار شهر كامل وبقيام ليله، وفرحة بالعكوف على الذكر والقرآن، وفرحة بالجلوس في مجالس العلم، وفرحة بتفطير الصائمين، وفرحة بصلة الأرحام، وفرحة بإخراج الصدقات... وحُقَّ لنا أن نفرح؛ أليس قد قال الله -عز وجل-: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[يونس: 58]، ثم فرحة أخرى بعيد الفطر تلك الجائزة الربانية للصائمين، وإنها لإحدى الفرحتين اللتين قد ذكرهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه"(متفق عليه)، فها قد نلنا إحداهما، ونسأل الله -تعالى- أن ننال الأخرى.
لكن مع هذه الفرحات غصة، بل هما غصتان، أما الأولى فأنْ رحل رمضان ولما نقضي منه نهمتنا، لقد ولت أيامه ولياليه وكرت، وتفلتت ساعاته ودقائقه من بين أيدينا وما حققنا فيه كل ما كنا نطمح، لقد كان ضيفًا عزيزًا على القلوب لكنه تعجل الرحيل، وكان نعمة أسبغها الله -تعالى- على الأرض لكنها رُفعت بعد حين، فأين بعد رمضان المسارعون إلى قيام الليل في المساجد في اشتياق؟ أين بعد رمضان كف الشياطين عن بني البشر؟ وأين بعد رمضان الأعوان الكُثُرُ على الخير؟ ثم أين وأين وأين...
لكنها عادة الأزمان وسنة الأفلاك وطبيعة الدنيا؛ ألا شيء يبقى ولا شيء يدوم ولا شيء يخلد ولا شيء يستمر أبدًا ما خلا الجليل -سبحانه وتعالى-: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)[الرحمن: 26-27]، هذا ما قضاه الله -تعالى- على جميع ما سواه: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)[القصص: 88].
وأما الغصة الثانية: فهي خوفنا من عدم القبول، فرُب أقوام قد جدوا واجتهدوا لكنهم عند الله -تعالى- ما قُبلوا! إننا لنثق في عدل الله -سبحانه- تمام الثقة، لكننا نشك في نوايانا ومقاصدنا؛ هل أردنا وجه الله -تعالى- بأعمالنا أم تسلل إلى قلوبنا رياء أو عجب فأحبطها! هل عبَدنا الله -تعالى- ابتغاء رضاه وجنته أم سرنا مع السائرين حياء من الافتضاح وعادة تعودناها في كل رمضان! هل لما خلونا عن البشر قارفنا ذنوب الخلوات فضيَّعت أجورنا!... لكننا كما نثق في عدل الله فإننا كذلك نثق في فضله وجوده وكرمه -سبحانه وتعالى-، أن يتجاوز عن أخطائنا ويتم نقصنا ويجبر كسرنا.
وخوفنا هذا من عدم القبول هو علامة صحة واشارة رحمة؛ فإن الصالحين من قبلنا قد فعلوه، يُحدِّث عبد العزيز بن أبي رواد عن الصحابة الأبرار الكرام فيقول: "أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهم؛ أيقبل منهم أم لا"، ويحكي عنهم كذلك معلى بن الفضل فيقول: "كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم".
وهذا العيد هو شعيرة من شعائر ديننا قد أنعم الله بها علينا، به تميزنا عن غيرنا، فعن أنس، قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر"(رواه أبو داود)، ويدل على ذلك أيضًا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر -رضي الله عنه-: "يا أبا بكر، إن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا"(متفق عليه).
فأعيادنا من شعائر ديننا، وهي علامة تميز لنا؛ لا نقلد فيها غيرنا ولا نتبع فيها سوانا، ولا نستهين بها ولا نهملها، فالأمر كما قرره القرآن الكريم: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحج: 32].
وعلى أعتاب هذا العيد الكريم سنن وآداب ينبغي أن تراعى، فهي هدي خير المرسلين -صلى الله عليه وسلم-، فمنها تكبيرات العيد: قال الله -تعالى-: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ)[البقرة: 185].
ومنها: ارتداء أجمل الثياب: فقد "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلبس يوم العيد بردة حمراء"(رواه الطبراني في الأوسط)، وهذا للرجال، أما النساء فالأهم أن يلبسن ما يستر أجسادهن ولا يظهر زينتهن.
ومنها: الفطر على تمرات وتر قبل الصلاة: فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات" وفي زيادة: "ويأكلهن وترًا"(رواه البخاري).
ومنها: إخراج الجميع لشهود جماعة المسلمين: فعن أم عطية -رضي الله عنها- قالت: "أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نخرجهن في الفطر والأضحى؛ العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير، ودعوة المسلمين"، قلت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: "لتلبسها أختها من جلبابها"(متفق عليه).
ومنها: مخالفة الطريق: فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا كان يوم عيد خالف الطريق"(رواه البخاري).
ومنها: الاستماع إلى خطبة العيد: فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يقول بعد صلاة العيد: "إنا نخطب، فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب"(رواه أبو داود).
وإذا قلنا أن العيد فرحة وسرور وبهجة وحبور، فإنه لا يصح أن نجعل العيد يومًا لتجديد الأحزان بزيارة القبور والبكاء على الأحباب من الأموات، بل على العكس تمامًا كان هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وفرح المسلمين في أعيادهم وفي جميع أحوالهم لا يكون إلا بالمباح الطيب الحلال، فاللهم إنا نسألك فرحًا حلالًا، كما نسألك أن ترفع الكرب عن إخواننا المستضعفين في كل مكان وأن تُدخِل على قلوبهم الروح والريحان إنك على كل شيء قدير.
وها هي باقة من الخطب الناضرة ننثرها على وجه هذا العيد السعيد قد جاءتك بالبشرى والتهنئة، فاقبلوها:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم