اقتباس
فإلى كل قائد يريد أن يسوس الناس، وإلى كل خطيب يبتغي أن يهدي الله به الخلق، وإلى كل مرب هدفه تعديل سلوك المتربين، إلى هؤلاء وغيرهم نقول: ابدأ بنفسك، وأصلح أحوالك، واستقم على منهج الله -تعالى-، وكن...
يحكى أن طفلًا صغيرًا كان نائمًا، وفي ظلام الليل استيقظ فوجد أباه يقيم الليل، فقام فتوضأ ووقف بجانبه مصليًا، وصار يفعل ذلك بجانب أبيه أغلب الليالي، فقالت له أمه يومًا: يا بني، نم ليلك ليستريح جسدك فإنك ما زلت صغيرًا على قيام الليل! فأجابها: يا أماه إني رأيتك إذا أوقدت الفرن بدأتِ بصغير الحطب فألقيته في النار قبل كبيره، فأخاف إن متُ صغيرًا أن أُلقى في نار جهنم قبل الكبار!
فكيف علم هذا الطفل أمر قيام الليل؟ إلا أن كان يرى أباه يفعله ففعل كفعل أبيه وصنع كصنيعه، وهذا ما يسمونه "القدوة".
فخطيرٌ خطيرٌ خطيرٌ هو أمر القدوة، لذا قالوا: "حال رجل في ألف رجل، أبلغ من مقالة ألف رجل لرجل"، ولقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصحابة يوم الحديبية قائلًا: "قوموا فانحروا ثم احلقوا"، قال المسور بن مخرمة: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله، أتحب ذلك، اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة، حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا، فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا...(رواه البخاري).
ولقد جاءت الرسل إلى أقوامهم بالآيات البينات والمعجزات الباهرات فما منعهم من اتباعهم إلا اقتداؤهم بآبائهم وأجدادهم: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)[الزخرف: 22-23].
فالقدوات إما أن تقود أمتها إلى الجنة إن كانت صالحة، وإما أن تقودهم إلى النار والبوار إن كانت طالحة، "فسعدت أمة قدواتها الصالحون المصلحون، وتعست أمة قدواتها الفسقة الماجنون".
***
ويثور سؤال مهم يقول: وبمن نقتدي؟
ونجيب: إن أول قدواتنا الصالحات هم الأنبياء والمرسلون، ولماذا هم أفضل القدوات؟ نقول: لأنهم عن الخطأ معصومون، ومن الله -عز وجل- مؤيدون، وإلى الخير والبر دائمًا يقودون، لذلك من أطاعهم إلى سعادة الدنيا والآخرة قادوه، وعن النار والتعاسة أبعدوه وجنبوه.
وعلى رأس الأنبياء جميعَا رسولنا ونبينا وقدوتنا وشفيعنا وإمامنا محمد -صلى الله عليه وسلم-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب: 21]، فمن اقتدى به -صلى الله عليه وسلم- فاز الفوز العظيم، بل إن الاقتداء به -صلى الله عليه وسلم- هو علامة حب العبد لربه -عز وجل-، وسبيل مغفرة الله -تعالى- للعبد: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[آل عمران: 31].
ولقد نصحنا القرآن الكريم أن نقتدي ونتأسى بنبي آخر من أنبياء الله؛ هو خليل الله إبراهيم -عليه السلام-: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)[الممتحنة: 4]، وأكدها القرآن وكررها: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ)[الممتحنة: 6].
وثاني القدوات هم القرون الثلاثة الفاضلة التي زكاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"(متفق عليه)، ولقد نص النبي -صلى الله عليه وسلم- وحث وحض على الاقتداء ببعضهم نصًا؛ فعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: كنا جلوسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي -وأشار إلى أبي بكر وعمر- واهتدوا بهدي عمار، وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه"(رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وعن العرباض -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ"(رواه أبو داود، وصححه الألباني).
ثم قدواتنا كل صالح رباني متمسك وممسِّك بالكتاب والسنة ممن عاش ومات على ذلك، فهذا ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "ألا لا يقلدن رجل رجلًا دينه، فإن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإن كان مقلدًا -لا محالة- فليقلد الميت، ويترك الحي، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة"(رواه البيهقي في السنن الكبرى).
***
ورب سائل يسأل: وما قولكم في الغرب والشرق أليسوا لنا بقدوة؟ فقد ملأت اختراعاتهم البر والبحر والجو، وقد بلغ تقدمهم مبلغًا عظيمًا لم نبلغ نحن إلى الآن عشر معشاره، فكيف إذن لا نتخذهم قدوة وأسوة ومثلًا أعلى لنا؟!
ونقول: كلا ثم كلا ثم كلا، وكيف نقتدي بكافر فيضلنا عن سبيل الله بعد إذ هدانا! أوليس الله -عز وجل- قد حذرنا قائلًا: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ)[آل عمران: 149]، وقائلًا: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً)[النساء: 89].
فالكفار ليسوا لنا بقدوة أبدًا، ورحم الله حبر الأمة عبد الله بن عباس إذ يقول: "يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل الله على نبيكم -صلى الله عليه وسلم- أحدث الأخبار بالله، محضًا لم يشب، وقد حدثكم الله: أن أهل الكتاب قد بدلوا من كتب الله وغيروا، فكتبوا بأيديهم الكتب!"(رواه البخاري).
وهذا عبد الله: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد أضلوا أنفسهم، إما يحدثونكم بصدق فتكذبونهم، أو بباطل فتصدقونهم"(رواه الطبراني في الكبير)، فنحن الأعلى والأهدى، فكيف نقتدي بمن هم على ضلال وتحريف وخبال.
نعم؛ نعاملهم بالحسنى والعدل والمعروف: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[الممتحنة: 8]، نعم؛ نبيع منهم ونشتري، ونستفيد من تقدمهم المادي ما استطعنا، لكن نحافظ على الولاء والبراء، لكن نحذر أن ننبهر بمادياتهم؛ فما هو إلا مظهر خداع يخفي باطنًا أجربًا.
***
والآن نقول لكل قائد يريد أن يسوس الناس، وإلى كل خطيب يبتغي أن يهدي الله به الخلق، وإلى كل مرب هدفه تعديل سلوك المتربين... إلى هؤلاء وغيرهم نقول: ابدأ بنفسك، وأصلح أحوالك، واستقم على منهج الله -تعالى-، وكن أول الفاعلين لما تأمر به الناس، وأول المبتعدين عما تنهاهم عنه، فإن رآك الناس كذلك سارعوا إلى الاقتداء بك والتأسي بسلوكك والسير على دربك... وهذا أيضًا ما ننصح به الأب والأم في بيتهما ليقتدي بهما أولادهما...
ولقد سمعنا القرآن الكريم ينهى عن خلاف ذلك: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[البقرة: 44]، ويقول: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)[الصف: 2-3]، بل هذا نبي الله شعيب -عليه السلام- يحذر ذلك على نفسه فيقول: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ)[هود: 88].
فمن خالف عملُه قوله، ثم لم يطعه الناس فلا يلومن إلا نفسه:
مشى الطاووس يومًــا باعوجـاج *** فقلد شكل مشيته بنوه
فقال: علام تختالون؟ قالوا: *** بدأت به ونحن مقلدوه
فخالف سيرك المعوج واعدل *** فإنا إن عدلت معدلوه
أمـا تـدري أبـانـا كـل فـرع *** يجـاري بالخـطى مـن أدبــوه
وفيما يلي باقة منتقاة من أروع الخطب التي تدور حول القدوة، ماهيتها وأهميتها وخطورة الاقتداء بالفاسدين، ووجوب الاقتداء بالصالحين... وغير ذلك كثير، فها هي بين يديك:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم