عناصر الخطبة
1/ قدوة واحدة تبني هدايات الجميع 2/ صناعة القدوات أشد صناعة 3/ أهمية القدوة الصالحة في حياة الأمة 4/ حينما تسقط القدوات 5/ الغرب يحتلنا بقدواته الزائفة 6/ أثر القدوة الذي تحدثه في الناس 7/ وصايا سريعةاقتباس
صناعة القدوات أشد صناعة أنزل الله أسبابها بأيدينا، وهي أسهل الصناعات، صناعة القدوات.. حديث كهذا يُلحُّ علينا، ونحن الذين شكونا لبعضنا من خريف القدوات، وجدب أرض أهل المكرمات، كلما اشتدت غربة الإصلاح، صار الحديث عن القدوة ضروريًا، يلح علينا هذا الحديث، في زمن تتساقط فيه القدوات، أو تُغيَّب إلى حيث ندري ولا ندري!!
الخطبة الأولى:
الحمد لله لا شريك له، من لم يقلها فنفسه ظلمَ، الحمد لله الولي الحميد، ذي العرش المجيد، الفعالِ لما يريد:
سجَدَتْ له الأملاكُ في إكبارِ..
الحمد له ربِّ الكائنات جليلها ودقيقها، الواحدِ القهارِ..
وله المحامدُ يصطفي ما شاءه، والمكرماتُ، وعينُ كل فخار..
يسمو الوجود إليه ذلاً صادقًا، وإليه تغدو رُوَّحُ الأعمار..
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، ربكم ورب آبائكم الأولين، وأشهد أن محمدًا بن عبد الله عبد الله ورسوله.
لاهم صل على النبي محمد ..
ما سبحت رحمانها فوق السماء الأنجم..
ما حام حول حمى حرامك مُحْرم ..
ما قال أشهد أن أحمد خيرُ رسلك مسلم ..
وصل اللهم على الآل والصحب ثم التابعين لهم..
ما أومض البرق مجتازًا على الظلم..
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
قيل قديمًا: وردة واحدة تكفي لميلاد الربيع، ونحن نقول: قدوة واحدة تبني هدايات الجميع، حينما نزرع في القدوة روح الاقتداء!
صناعة القدوات أشد صناعة أنزل الله أسبابها بأيدينا، وهي أسهل الصناعات، صناعة القدوات.. حديث كهذا يُلحُّ علينا، ونحن الذين شكونا لبعضنا من خريف القدوات، وجدب أرض أهل المكرمات، كلما اشتدت غربة الإصلاح، صار الحديث عن القدوة ضروريًا، يلح علينا هذا الحديث، في زمن تتساقط فيه القدوات، أو تُغيَّب إلى حيث ندري ولا ندري!!
يفتخر الرجل العربي القديم بوفرة القدوات في أبناء قبيلته، ويراها منقبة كافية للفخر على كل قبائل عصره حين يقول:
وإني من القوم الذين هم هم *** إذا مات منهم سيد قام صاحبه
نجومُ سماء كلما خر كوكب *** بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
ولا جَرَم، فالقدوة تظل شمسًا يُضاء بخيطها الوضاءِ.
هبني قدوة صالحة، أهبك جيلاً صالحًا، وهبني إمامًا يدعو إلى النار، أهبك أرتالاً من اللحوم البشرية كلها تستعد أن تُقذف في النار.
يخلِّد القرآن الكريمُ الفرعونَ القديم لمصر، حين يجعله مثالاً لأنذل قدوة بشرية في التاريخ القديم، والله يقول عنه وعن أشياعه: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ)، كيف وذلك الفرعونُ القديم: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ)، بئست القدوة، وهو يستخف بقومه ثم يطيعونه.
كان الحديث عجيبًا في كتاب الله، والله -عز وجل- يقصّ علينا حساسية القدوة وكيف أنها تورد الأجيال مهاوي الردى، أو معاقد النصر الجديد.
دخلت أمةٌ النارَ في قدوة، ودخلت أمةٌ الجنةَ في قدوة.
كلما أسأنا صناعة القدوات أسأنا استخدام الأسلحة.
يا باري القوس بريًا لست تحسنه *** قد يرجع القوس يومًا في مآقيكَ
ما الذي نفع أولئك الكفرة أن يقدِّموا قدواتهم السيئة لتكون صالحة للاقتداء وهم الذين قالوا: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)، أنفعتهم قدواتهم وجباههم كل يوم تتفحم من هذه القدوات المشوهة!!
اتركوا أولادكم بلا قدوات صالحات، وأنا زعيم بأولاد لن يفلحوا أبد الدهر، اتركوا أولادكم تتحكم فيها القدواتُ السيئة، والوجوهُ الملمَّعة، وأشباهُ الرجال، وسفهاءُ الأحلام، وساقطو المروءات، فلن تجنوا إلا يبابًا، من يزرع الشوكَ لا يحصد به عنبًا!! والحمامةُ التي تطير مع الغربان لن تتعلم إلا النعيق.
إن القدوة مطلب فطري، ما لم نجلبه لأجيالنا الواعدة، سقطت في وحل الترهات، وحمم الجهالات.
هل يستوي من رسول الله قائده *** دومًا وآخر هاديه أبو لهب
هيهات!!
إن الأب الذي يُنصِّب لأولاده قدواتٍ من ورق، سيجد أن الزمان كفيلٌ بتمزيقها وتمزيقهم، بل تسقط القدوات.
إن الوالد الذي يستهين في أمر نفسه ولا يجعلُ من نفسه قدوة صالحة لأولاده لتجدن أولاده ولو بعد حين مرمىً للسباع الضارية، والأنياب الجائعة.
ومن رعى غنمًا في أرض مسبعة *** ونام عنها تولى رعيَها الأسد
بل تسقط القدوات إذا تخلَّت الأم عن دور قدوتها، وجعلت من بيتها مقراً لإنضاج الطعام، وتفصيل الأكسية فحسب، وكان فعلها بخلاف أمرها، ونهيها بخلاف تركها، تنهى أولادها عما تفعله، وتأمرهم بما لا تفعله.
فكيـف ينشأ جيل يساير الإصلاحَ *** وكيف نبغي صلاحًا ونحن نخطي الصلاحَ
وكيف ينشأ ناشئ الفتيان فينا، على ما كان جهَّله أبوه!!
بل تسقط القدوات..
إن المعلم الذي يريد من طلابه أن يرفعوا أكفهم ليقول لهم: اهتفوا للنادي الفلاني، فكيف تجد الطلاب بعد ذلك متصدرين مراتبَ العلاء، والقمة الشماء، بل في الرتب الشنعاء والسبةِ اللخناء، وهراء ورغاء وثغاء.
أمعلّمي الوادي وساسةَ نشئـهِ *** والطابعين شبابَـه المـأمـولَ
والحامليـنَ إذا دُعوا ليعلِّمـوا *** عبءَ الأمانةِ فادحـاً مسؤولاً
استوقفني البارحة أحد الشباب الصغار ليسألني عن حكم مشاهدة المباريات، فقلت: ولم؟! قال: كل الشباب الذي يدرسون معي يشاهدونها!! حين تصنع جيلاً صغيرًا لا يجد إلا التافهين ليهتف لهم، فلا أظنك معي تنتظر خلافة راشدة على منهاج النبوة، ولن تنتظر معي أن يبعث الله على أيديهم ماردًا يخرج من قمقمه ليعلم الناسَ مكارم الأخلاق.
إن أخطر ما نعانيه هو أزمة القدوات، وقل لي: من قدوتك أقل لك من أنت!!
يُحْكم الله -عز وجل- في قرآنه العظيم مسألة القدوة، ولما كانت بالغة الحساسية والأهمية ضرب المثل بأرقى القدوات وأفضلِها وأزكاها.
محمد صفوة الباري وقدوتنا *** وبغية الله من خلق ومن نسَمِ
ومشهود أن الله -عز وجل- لم يقل: لقد كان لكم أسوة حسنة في حكمة أفلاطون ولا فلسفة أرسطاطاليس ولا في شعر شيكسبير، بل قال: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)، وقال عن قدوة الحنيفية: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ)، وذكر عن أنبيائه: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ).
يا باغيًا سنـن الهـدى *** اسلك سبيل الراشدين
يا قافيًا سـبل الـردى *** قف عن دروب الزائغين
يـا أولـيـاء الأمـر *** والأمر الخطير سيستبين
اهـدوا الشباب لقدوة *** في ظلهـا الهدي المبين
وقفـوهمُ للصـالحين *** السـالكين المهتديـن
نشر مركز التخطيط الاستراجي (راند) دراسة عام 2005 بعنوان: (الإسلام المدني الديمقراطي)، وهذه الدراسة تضع خطوات عملية لترويجه، كان من توصيات هذه الدراسة الراندية: إتاحة المنابر الإعلامية للمسلمين المعتدلين الذين ينتقدون جوانب في القرآن الكريم وحياةَ النبي وأحكام الشريعة، وضرورة إظهارهم كقدوات بطولية.
كما أوصت الدراسة بالتركيز في المناهج التعليمية في الفترات التاريخية قبل الإسلام وتاريخِ الحضارات غير الإسلامية، كالإغريقيين، والآشوريين والبابليين والفينيقيين والكنعانيين والآراميين ثم أوروبا في العصور الوسطى.
وهذا العالم المعاصر يغري بفرص الدعم الكبرى لإظهار الزائفين بصور بطولية، ترى الرجل يعجبك في كل شيء، في ذكائه ومهنته، وتنظيره، وفلسفته، ثم تراه وما في قلبه مثقالُ حبة خردل من إيمان. فكيف سيكون هؤلاء قدواتٍ ومناراتٍ؟! أهؤلاء من نستأمنهم على أجيالنا!!
هذا العالم المحتل، ما احتل عالمنا إلا بتزييف متصدريه، وجعلهم هدايات للناس، حتى نُصِّبت الجوائز العالمية لإظهار بعض القدوات التي يريدون تنصيبها وبعثها قدوة حية لكل الناس!!
من جائزة نوبل للسلام إلى جائزة بوليتْزر، وجائزة كفافيس، كلها جوائز عالمية، تمنح الجوائز البطولية لمن تختار، وسوف لن تندهش إذا علمت أن بعض هذه الجوائز منحت لبعض العرب، ليقوموا مقام الاحتفاء والاقتداء في أقوامهم، فرجل منح جائزة السلام، وهو الذي صنع السلام لليهود، ووجّه فوهة السلاح لشعبه، ورجل منح جائزة نوبل في الآداب لرواياته الجنسية الساقطة، ورجل ورجل... (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً).
اللهم إنا نعوذ بك من جلد القدوة الفاجرة وعجز القدوة الثقة.
أستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
بالقدوة تنتشر الفضائل أو تشيع الرذائل، القدوات الحقيقية تثير في النفس قدرًا كبيرًا من الإعجاب والاستحسان والمحبة.
القدوة قدوتان، قدوة بالرجال، وقدوة بالأفعال، وطوبى لمن جمع بينهما فكان قدوة في نفسه، وقدوة في فعله!!
وللمقتدى به أجر عظيم إن كان في الخير، لذا كان من دعاء عباد الرحمن: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً)، اللهم اجعلنا للمتقين إمامًا.
عَنْ جَرِيرٍ بن عبد الله -رضي الله عنه-: قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي صَدْرِ النَّهَارِ قَالَ: فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَة والعوزِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرَ بِلالاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمِ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)، إِلَى آخِرِ الآيَةِ: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، وَالآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ: (اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ)، ثم قال: "تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ"، حَتَّى قَالَ: "وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ"، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ بعده حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئة فعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ". إنها صناعة القدوات.
خذ هذا الحديث المروِّع حتى تعلمَ القدواتُ أيَّ أثر تحدثه في الناس؛ يقول -عليه الصلاة والسلام-: "لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا؛ لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ".
كم عددَ الذين قتلوا ظلمًا على أيدي السفاحين في العالم، من عهد آدم إلى يومنا هذا، هل يحصيهم إلا الله؟! أم كان قابيل على استعداد أن يقتل أخاه هابيل، وهو يعلم أن كفل قتلته تلك، ستكلفه ملياراتِ القتلى، كلها تأتي يوم القيامة ينوء بها ظهره. بئست القدوة السيئة، وما أعظم مصيبةَ صانِعها عند الله!!
لكنه إذا كان يوم القيامة تبرّأ الذين اتُبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب، لما جاء سيف الله خالد بن الوليد -رضي الله تعالى عنه- إلى رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، في السنة الثامنة للهجرة النبوية، وحين جاءه مسلمًا، ثم مد يده ليبايع النبي -عليه الصلاة والسلام-، قال رسول الله لخالد -رضي الله عنه- معاتبًا له على إسلامه المتأخر: "أين كان عقلك يا خالد؟! فلم ترَ نور النبوة بين ظهرانيكم منذ عشرين سنة؟! فقال خالد: "كان أمامنا رجال كنا نرى أحلامهم كالجبال".
ومن يجعل الذئبان مرعى على الحمى *** تخاتلـه الذئبان قبل قطيعه
بئست القدوة السيئة، وما أعظم مصيبة صانعها عند الله!!
روى ابن إسحاق وغيره قصة عجيبة؛ قال: لما كان يوم بني قريظة، وحين حاصرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم أنزل الله حكمه فيهم بقتل رجالهم، وسبي نسائهم، قال: كان رجل من بني قريظة وهو شيخ كبير يدعى الزبير بن باطا، أُتي بهذا الشيخ الكبير ليعرض على القتل، فرآه الصحابي الجليل ثابت بن قيس -رضي الله تعالى عنه-، وكان هذا اليهودي قد عمل معروفًا لثابت -رضي الله عنه- في الجاهلية، فجاءه ثابت فقال لليهودي: يا زبير: هل تعرفني؟! قال اليهودي: وهل يجهل مثلي مثلك؟! قال ثابت: إني قد أردت أن أجزيك بيدك عندي؛ قال اليهودي: إن الكريم يجزي الكريم.
ثم أتى ثابت بن قيس رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله: إنه كانت للزبير عليّ منة، وقد أحببت أن أجزيَه بها، فهب لي دمه؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هو لك يا ثابت"؛ فأتى ثابتٌ هذا اليهودي فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد وهب لي دمك، فهو لك؛ فقال اليهودي: إنني شيخ كبير لا أهل لي ولا ولد، فما أصنع بالحياة يا ثابت؟!
قال: فأتى ثابت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، هب لي امرأته وولده؛ قال: "هم لك يا ثابت". قال: فأتاه فقال لليهودي: قد وهب لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهلك وولدك، فهم لك؛ قال: ومالي يا ثابت؟! قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن مالك فقال: "هو لك"، قال اليهودي، فما فعل سيدنا -يقصد زعيم بني قريظة- كعبَ بن أسد، قال ثابت -رضي الله تعالى عنه-: قتل، قال اليهودي: فما فعل سيد الحواضر والبوداي؟! يعني حييَّ بن أخطب زعيم بني النضير، قال ثابت: قتل؛ قال: فما فعل حاميتنا إذا فررنا؟! يعني: اليهودي عزَّال بنَ سموأل؟! قال: قتل، قال اليهودي لثابت: فإني أسألك يا ثابت بيدي عندك إلا ألحقتني بالقوم قتيلاً، فوالله ما في العيش بعد هؤلاء الأخيار من خير!! أأخيار أم فجار؟!
ومن تكن الذئاب له دليلاً *** تضاحكه قبل الكريهة والقتل
سيأتون يوم القيامة، وكل أمة تلعن أختها، أخيارها المزعومة قبل فجارها، ولن ينفعهم أن يقولوا: (إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ).
إذا سقطت القدوات وميِّعت للأجيال فسيكون أبو جهل هو أبا الحكم!! وسنصنع ألف طاغوت وطاغوت يقتدى به من دون القدوة الطيبة، إذا سقطت القدوات الحقيقية أو غيبت، فما على الأجيال إلا الضلال، وما على الباقين إلا الزوال.
تسقط القدوة الحقيقة في قلوب أولادنا، ثم نعتب عليهم إذا علقوا صور الضائعين والضائعات، وتغنوا بأسمائهم في النوادي والملتقيات، ونحن لم نشبع في قلوبهم سنة القدوة.
إذا سقطت القدوات الحقيقية فسيكون كل نذل كافر لا يؤمن بالله الملهم الحقيقي لأجيال الأمة، والتافهون هم قواد المرحلة الجديدة.
متى رأيت الفراغ الروحي والإبداعي في قلوب الناس، فاعلم أنه صنيعة للفراغ القدواتي في قلوبهم.
إذا سقطت القدوات الحقيقية فما هي إلا القدوات الزائفة تتحكم وتبني في أنفسنا وأنفس من بعدنا.
إذا احتضرت أسود الغاب يومًا *** ففي الغابات يحتفل النباح
إذا سقطت القدوات الحقيقية، فسيكون نيلسون مانديلا هو صانع الخير والإصلاح وحده في هذا العصر، وهو الذي ينبغي أن يكون المثل الأعلى لنا وللغد الواعد!! وهو الذي ينبغي أن يكون يومُ موته مأتمًا، وكأن الأمة في ماضيها وحاضرها ثكلى قدوات.
إذا سقطت القدوات الحقيقية، فسيكون القديس فالنتاين هو الذي يقود الشباب لعيد الحب في هذا اليوم، وكأنه لا حب في الإسلام في كل يوم!!
إذا سقطت القدوات الحقيقة في أنفس أفراد الأمة وشبابها أو غُيبت، فستكون المجاهيل هي المصدر الرئيس للفتيا، وللتصدير والإعزاز والإكبار.
إذا سقطت القدوات فسيتخذ الناس رؤوسًا جهالاً ليُسألوا بعدها وليفتوا الناس بغير علم فيَضلون ويُضلون.
إذا سقطت القدوات الحقيقية، فستقفز القبيلة لتكون هي القدوة الحقيقة والملهم الأول لشبابها وأبنائها، وسنسمع ألف دريد ودريد يقول:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت *** غويت وإن ترشد غزية أرشدِ
تسقط القدوة الحقيقية حين يأمر الوالد أبناءه للصلاة، ثم تفوته منها ركعات، وتسقط القدوة الحقيقة وتتهشم حين تستحكم الموضات وعارضات الأزياء على عادات الفتيات، وستكون عائشة وحفصة وأم سلمة وأخواتهن مثارًا للسخرية.
وصايا سريعة:
اجعل من نفسك قدوة في أي مجال تحسنه، فلن يُعدم الناسُ من خلق يقتدون بك فيه، فالأب قدوة لأولاده، والأم قدوة لبناتها، والأخ قدوة لإخوانه.
ابعث قدواتٍ حية لمن تحت يدك، واقصص عليهم قصص القدوات لعلهم يتفكرون ويقتدون، ولن يكفيَ الماضي الجميل، بل في الحاضر قدواتٌ حية ثرية.
نوِّع لمن تحت يدك قدواتِهم، واعرف مواطن الحاجة في كل واحد منهم، فالصحابة وهم الصحابة، لم يبرز آحادهم بكل شيء، فأرحم الأمة بالأمة أبو بكر، وأشدها في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقضاهم علي، وأفرضهم زيد، وأشعرهم حسان، وأحفظهم للحديث أبو هريرة، وأكثرهم صيامًا عبد الله بن عمرو بن العاص.
وأحمد بن حنبل ومالك أكثرهم جمعًا للحديث، وأبو حنيفة في صناعة الفقه، والشافعي بينهما.
والقدوات السبعة الذين يظلهم الله في ظله، إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ومتصدق، ورجل متعفف، ورجلان تحابا في الله، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه.
أيها المربي والمعلم: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ).
خطؤك في فعلك أكبر من خطأ غيرك، ولقد رأى عمر بن الخطاب ثوبًا معصفرًا على طلحة -رضي الله عنه- فقال: "إنكم -أيها الرهط- أئمة يقتدي بكم الناس".
ليكن قولك موافقًا فعلك حتى تستقيم قدوتك لغيرك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ).
وإذا بحثت عن التقي وجدته *** رجلاً يصدق قوله بفعال
اللهم اجعلنا هداة مهتدين، وهب لنا من أزواجنا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم