حرمة الاتجار بالبشر - خطب مختارة

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات:

اقتباس

ثم -للأسف- عاد نظام الرق والعبودية في عصرنا هذا؛ عاد في صورة غير صورته، عاد في ألف شكل وشكل وألف نوع ونوع، عادت العبودية للمخلوق، وعادت المتاجرة بمصائر البشر ودمائهم وأرواحهم، وعاد النخاسون ينادون على سلعتهم: "من يشتري هذا العبد...

خُلق الإنسان حين خُلق مصونًا محترَمًا مكرَّما، ولقد نطق بها القرآن قائلًا: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)[الإسراء: 70]، وتتضح مظاهر تكريم الله للإنسان في أشياء عدة، فقد خلقه -عز وجل- بيده: (قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)[ص: 75]، وبعد أن خلقه كريمًا أسجد له الملائكة: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا)[الأعراف: 11]، ولما خلقه -تعالى- سواه في أحسن صورة: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)[غافر: 64]، ومع الصورة الخارجية الحسنة، فقد منحه الله -عز وجل- العقل والسمع والبصر: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[النحل: 78]، ومنحه أيضًا النطق والبيان: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)[الرحمن: 1-4]، ثم سخر له المخلوقات في السماء والأرض: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)[لقمان: 20]...

 

***

 

فالإنسان بأصل خلقته مصون مكرَّم، لكن أقوامًا مسخت فطرتهم ونزعت الرحمة من قلوبهم أبوا إلا أن يهينوا الإنسان الذي أكرمه الله، فتارة باعوه واشتروه عبدًا رقيقًا أو أمة تباع وتشترى في أسواق النخاسة لا تملك من أمرها شيئًا، يتاجرون في البشر فيجعلونهم سلعة -مجرد سلعة- يُرغب في ابتياعها أو يُزهد! سلعة مهانة غير مصانة، مساقة مقادة تبع وذيل تُعدُّ دائمًا من سقط المتاع!

 

فجاء الإسلام فحاول بكل طريق أن يقضي على جميع صور وأشكال العبودية لغير الله -تعالى-، فشرع الله -عز وجل- التشريعات التي من شأنها تجفيف منابع الرق والعبودية، حتى لقد اختفت بالفعل جميع مظاهر الرق وتحرر جميع الأرقاء وصار الأكرم هو الأتقى.

 

ثم -للأسف- عاد نظام الرق والعبودية في عصرنا هذا؛ عاد في صورة غير صورته، عاد في ألف شكل وشكل وألف نوع ونوع، عادت العبودية للمخلوق، وعادت المتاجرة بمصائر البشر ودمائهم وأرواحهم، وعاد النخاسون ينادون على سلعتهم: "من يشتري هذا العبد... ومن يشتري هذه الأمة"! عاد نظام السخرة والإقطاع، ولكن نخاسو عصرنا صاروا لا يربطون عبيدهم بالحبال الغليظة ولا بالأطواق في رقابهم، بل يقيدونهم بما يُعرف بـ"عقود العمل"، أو بـ"نظام الكفالة" أو بغيرهما من المسميات!

 

فصورة من صور الرق والعبودية المعاصرة تتمثل فيما يُطلق عليه: "العمل القسري"، أو "العمل الجبري"... وفيه تنتزع إرادة البشر وتزال، ويُرغَم الواحد منهم على العمل بأجر زهيد ظلمًا، وهو مقيد بالعقود الجائرة أو بالاشتراطات الظالمة التي لا يستطيع منها فكاكًا إلا إلى غياهب السجون! وقد عُرِّف العمل القسري بأنه: "كل عمل أو خدمة يجبر على تقديمها وبذلها شخص ما تحت أي نوع من التهديد كالتوعد بعقوبة ما أو بإيقاع ضرر عليه، دون أن يتطوع هذا الشخص بأدائها بمحض إرادته واختياره"، وهذا ما نراه ونسمع عنه في بعض بلادنا العربية الإسلامية؛ حيث يجبر الكفيل أو صاحب العمل عماله وموظفيه على العمل رغمًا عنهم وقهرًا لإرادتهم! فكأنهم عبيد يضربون بالسياط على ظهورهم، نعم ليست سياطًا من جلد أو من ليف، لكنها سياط من سلطة وتسلط وسطوة!

 

وصورة ثانية من صور الاتجار في البشر، وهي أكل حقوق الأجراء والمماطلة في دفع أجورهم بعد استيفاء العمل منهم، وفاعل هذا يأتي الجليل العظيم المنتقم الجبار خصمه يوم القيامة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعط أجره"(البخاري)، وويل لمن القوي المتين خصمه يوم الفزع الأكبر! وقد روي مرسلًا عن عطاء بن يسار قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه"(الأموال لابن زنجويه).

 

ولون ثالث بغيض من الاتجار بالبشر وهو ما يُعرف بالاسترقاق أو الاستغلال الجنسي سواء أكان بغرض الاستمتاع الجنسي بالمغصوب أو بغرض التربح من وراء أجسادهم أو أجسادهن! إنه نوع من أنواع البغاء الذي نعى القرآن على فاعليه قائلًا: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[النور: 33]، وليس بعيدًا عنه الزواج والتزويج بالإكراه، وفيه مخالفة صارخة لحديث صحيح مسلم عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها"(مسلم)، فتزويج الفتاة أو المرأة على غير إرادتها عصيان لرسول الله -صلى الله عليه وسلـم-، وسلب لإرادتها وقهر لفؤادها...

 

ومن صور الاتجار بالبشر كذلك: إجبار الأطفال الذين لم يبلغوا الرشد بالعمل والكد والكدح للحصول على الأموال من ورائهم، وهو انتهاك لطفولتهم وتشويه وتدنيس لفطرتهم وحرمان لهم من التعلم والتدرج النفسي في تربيتهم، وإقحام لهم في مجال لا يمتلكون أدوات الخوض فيه، وإلقاء لهم في خضم بحر هائج الأمواج دون تعليمهم كيف يسبحون، واعتداء على براءتهم...

 

***

 

وقبل أن ننتبه نحن لخطر جميع أنواع المتاجرة بالبشر فقد نبهنا عليه فضيلة وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد الشيخ الدكتور عبداللطيف بن عبدالعزيز آل الشيخ مشكورًا، فوجَّه جميع خطباء الجوامع في مختلف مناطق ومحافظات المملكة بتخصيص خطبة الجمعة المقبلة، عن موضوع "حرمة الاتجار بالبشر"، فجزى الله معاليه خيرًا على هذا التوجيه الحصيف وذلك التنبيه المهم على موضوع خطير قد تفاقم شره وتمادى خطره...

 

وبناءً على هذا التوجيه الكريم من معالي الوزير فقد عقدنا في ملتقى الخطباء هذه المختارة راجين أن تكون عونًا لإخواننا الخطباء على تلبية دعوة فضيلته، وعلى معالجة هذا الداء الخطير وعلى مواجهة ذلك الشر المستطير.

 

 

الخطبة الأولى:
الخطبة الثانية:
الخطبة الثالثة:
الخطبة الرابعة:
الخطبة الخامسة:
الخطبة السادسة:
الخطبة السابعة:
الخطبة الثامنة:
الخطبة التاسعة:
الخطبة العاشرة:
الخطبة الحادية عشر:
الخطبة الثانية عشر:
الخطبة الثالثة عشر:
الخطبة الرابعة عشر:
الخطبة الخامسة عشر:
العنوان
حقوق الأجراء 2019/10/02 4106 589 26
حقوق الأجراء

وَمِنْ ظَوَاهِرِ تَقْدِيمِ الدُّنْيَا عَلَى حَقِّ اللَّـهِ تَعَالَى وَالدَّارِ الْآخِرَةِ: مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ المُسْلِمِينَ مِنْ مَنْعِ عُمَّالِهِمْ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ؛ حَتَّى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَرُبَّمَا اضْطَرُّوهُمْ إِلَى تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا، أَوْ أَلْزَمُوهُمْ...

المرفقات

حقوق الأجراء

المرفقات
بوست068-حرمة-الاتجار-بالبشر-01.jpg
بوست068-حرمة-الاتجار-بالبشر-02.jpg
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life