اقتباس
وفي هجرته المشرفة علَّمنا -صلى الله عليه وسلم- أن الدين أهم من الوطن والأرض، وإلا لما ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- وطنه ليقيم دينه على أرض أخرى صالحة تتقبله، ولهادن الكفار وداهنهم ووصل معهم إلى "حلول وسط" كي لا يغادر وطنه، فلما لم يفعل -صلى الله عليه وسلم- ذلك واختار المهاجرة، عُلِم أن الدين أهم من الوطن...
قد تتضايق على الإنسان الأرض حتى لا يطيقها، وحتى تصير تربتها له قبرًا، وسماؤها عليه عبئًا، وماؤها في فمه حنظلًا، وطرقاتها في عينيه حيات وأفاعي!... وقد يضطهد المرء في بلده لتمسكه بدينه ومبادئه، أو لمناهضته لظلم، أو لمطالبته بحق، حتى تتنكر له شمسها وقمرها ونجومها وهواؤها وبرها وبحرها!... وقد يفتقد المسلم في وطنه الأمن والأمان، ويحيط به ما يستوجب الفزع والخوف والهلع، وتتقاذف عليه "براميل" المتفجرات وقذائف الدبابات، حتى يصير المقام في أرضه ضربًا من المجازفة والمخاطرة!... وقد تنقطع به أسباب الرزق، وتنسد في وجهه السبل، ويعضه الجوع، ويؤلمه بكاء أهله وولده من العوز والحرمان....
عند ذلك يطلب المرء الهرب والفرار والفكاك منها، فيهاجر من وطنه ومسقط رأسه "هجرة اضطرارية"؛ يطلب الأمن أو الرزق أو السعة أو الاستقرار يحدوه قول الله -عز وجل-: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[النساء: 100]، وقوله -تعالى-: (يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)[العنكبوت: 56].
فإن كانت فتنته في دينه؛ بحيث لا يستطيع إقامة شعائره وحدوده، ثم لم يهاجر فله ذل الدنيا وعذاب الآخرة: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)[النساء: 97]، إلا إن كان من الضعفاء الذين لا يستطيعون ولا يقدرون فهم -إن شاء الله- معذورون: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا)[النساء: 98-99].
ويبقى النوع الآخر من الهجرة؛ وهو "الهجرة الاختيارية"، وقد تكون مباحة؛ وذلك إن هاجر طلبًا للتوسعة في الرزق، أو السياحة والترفيه الحلال أو للاستشفاء والعلاج... وقد تكون مستحبة ومندوبًا إليها إن كانت للدعوة إلى الله -تعالى- والدلالة عليه: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[التوبة: 122].
***
وكم من صالح خرج من وطنه مهاجرًا فارًا بدينه من اضطهاد المشركين، ومنهم كثير من الأنبياء والرسل، فهذا موسى -عليه السلام- يُنصح بأن يهاجر من بلده فيستجيب فرارًا بحياته: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ)[القصص: 20-21]، ولم ينكر نبي الله موسى أنه فرَّ خوفًا على حياته، بل قالها لفرعون: (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ)[الشعراء: 21].
أما لوط وشعيب -عليهما السلام- فقد حاول قومها طردهما من بلادهما، فتعاقد قوم لوط وتعاهدوا مرددين: (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ)[النمل: 56]، أما قوم شعيب فهددوه قائلين: (لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا)[الأعراف: 88].
بل في الجملة، ما أتي رسولٌ قومه إلا حاولوا طرده وإخراجه ومن معه من المؤمنين: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا)[إبراهيم: 13]، ولما قال ورقة بن نوفل لنبينا -صلى الله عليه وسلم-: يا ليتني فيها جذعًا، أكون حيًا حين يخرجك قومك، سأله -صلى الله عليه وسلم-: "أومخرجي هم"، فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي(متفق عليه).
***
ولقد اضطر الكفارُ نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن يترك بلده مكة الحبيب إلى قلبه، ويهاجر إلى المدينة المنورة، ولقد قال على عتباتها كلماته المشهورة: "ما أطيبك من بلد، وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك"(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
وفي هجرته المشرفة علَّمنا -صلى الله عليه وسلم- أن الدين أهم من الوطن والأرض، وإلا لما ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- وطنه ليقيم دينه على أرض أخرى صالحة تتقبله، ولهادن الكفار وداهنهم ووصل معهم إلى "حلول وسط" كي لا يغادر وطنه، فلما لم يفعل -صلى الله عليه وسلم- ذلك واختار المهاجرة، عُلِم أن الدين أهم من الوطن.
وعلَّمنا -صلى الله عليه وسلم- أنه لا نجاح بلا تخطيط سليم: فلقد كان الله -عز وجل- قادرًا -ولا يزال- أن ينقل نبيه -صلى الله عليه وسلم- ليلة الهجرة من مكة إلى المدينة في طرفة عين كما فعل -سبحانه- ليلة الإسراء والمعراج، لكنه -تعالى- أراد أن يعلِّمنا من جملة ما علَّمنا: التخطيط والأخذ بالأسباب؛ فيأمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يتجه هو وصاحبه عكس اتجاه المدينة المنورة تمامًا؛ تجاه غار ثور، ليفروا من الطلب، ويكلِّف -صلى الله عليه وسلم- عبد الرحمن بن أبي بكر -رضي الله عنهما- أن يعمي آثار أقدامهما بغنمه، ويأتيهما بأخبار قريش، كما يكلف أخته أسماء -رضي الله عنها- أن تأتيهما بالطعام، ويستأجر -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن أريقط دليلًا خبيرًا بطرق الصحراء... لتتعلم الأمة إلى يوم القيامة أنه لابد من التخطيط والأخذ بالأسباب وإلا صار الأمر تواكلًا وتوانيًا يعقبه الخيبة والفشل لا محالة.
وعلَّمنا -صلى الله عليه وسلم- أن نختار الرفيق قبل الطريق: فلما أذن الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة أتى صاحبه أبا بكر -صلى الله عليه وسلم- فقال: "فإني قد أذن لي في الخروج"، قال: فالصحبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال: "نعم"(رواه البخاري)...
ثم لا تنقطع الدروس والعبر من الهجرة النبوية المشرفة.
***
ولكن للهجرة بأنواعها شروطًا لا تكون جائزة إلا بها، لعل أهمها شرطين، أولهما: ألا تكون إلى بلاد الكافرين: فعن جرير بن عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"(رواه أبو داود، وصححه الألباني)، فهذا هو الأصل؛ أنه يحرم الهجرة إلى بلاد الكافرين إن لا يستطيع إظهار شعائر دينه، فإن كان يستطيع إظهارها فهجرته مكروهة.
والثاني: أن يدخل البلد التي سيهاجر إليها بإذن أهلها: فتحرم الهجرة "غير الشرعية"؛ حيث يقتحم أو يتسلل إلى البلاد بغير إذن أهلها، فيُعرِّض نفسه للذل والمهانة والحبس والتغريم، بل ويعرضها إلى المخاطر التي قد تودي بحياته أثناء رحلته المشبوهة.
***
ولأن أمر الهجرة مهم جليل، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من قبل المغرب"(رواه النسائي في الكبرى، وصححه الألباني)، فقد أفردنا لها هذا الملف العلمي الكامل، وضمنَّاه خمسة محاور، كل منها يبحث في مبحث من مباحث الهجرة، ويفصِّل في جانب من جوانبها... وقد جاءت على الصورة التالية:
التعليقات