في الهجرة النبوية

صالح بن فوزان الفوزان

2022-10-04 - 1444/03/08
عناصر الخطبة
1/ بداية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم للناس وصبره على آذاهم 2/ هجرته إلى المدينة واعتزاز الإسلام 3/ العبرة والاتعاظ من الهجرة النبوية 4/ بدعية الاحتفال بالهجرة النبوية 5/ المطلوب منا تجاه سيرة النبي صلى الله عليه وسلم

اقتباس

إن المطلوب من المسلمين أن يطلعوا على سيرة نبيهم غير متقيدين بوقت أو احتفال، وأن يعملوا بما يعلمون منها. لأن هؤلاء الذين يقيمون الاحتفال بهذه الذكرى غالبهم لا يعمل بسنة الرسول ولا ينفذ شرعه ولا يقيم دينه، فهم -والعياذ بالله- يقولون ما لا يفعلون. فعلينا أن نتجنب هذه الطريقة البدعية وأن ندرس سيرة نبينا كما كان يدرسها سلفنا الصالح قولاً وعملاً ..

 

 

 

الحمد لله الذي شرع الهجرة والجهاد، لنشر الدين وقمع الفساد. نحمده تعالى إذ نصر عبده وأعز جنده. وهزم الأحزاب وحده. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. نشهد أن محمداً عبده ورسوله المهاجر بدينه من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام. والقائل: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها" صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وسلم تسليماً كثيراً.

أيها المسلمون: اتقوا الله واشكروه على نعمة الإسلام. فقبل البعثة النبوية كان الناس -إلا ما شاء الله- على الضلال. يعيشون على النهب والسلب والقتال. يعبدون الشجر والحجر والأصنام والأولياء والصالحين. ويتبعون كل كاذب وساحر وكاهن ودجال. فبعث الله فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. فهدى به من الضلالة. وعلّم به من الجهالة. وبصَّر به من العمى، فقام بأداء رسالة ربه خير قيام، فبشر وأنذر، وصدع بأمر الله تعالى وجهر، وجعل المشركون يسخرون منه ويستهزئون به ويؤذونه أشد الأذى ويعذبون من آمن به ليردوهم عن ديهنم.

وكان عمه أبو طالب يحميه من أذى قومه. وكانت زوجه خديجة رضي الله عنها تؤنسه وتعينه. واشتد أذى قومه له ولمن آمن به، ومات عمه أبو طالب وزوجه خديجة في عام واحد، فاشتد حزنه -صلى الله عليه وسلم- وتطاول المشركون. واشتد به -صلى الله عليه وسلم- الكربة وضاق به الحال. فخرج -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى أهل الطائف ليدعوهم إلى الله؛ لعلهم يؤمنون به ويناصرونه حتى يبلغ رسالة ربه، فقابل رؤساءهم، وعرض عليهم ما جاء إليهم من أجله. فردوا عليه رداً قبيحاً وأغروا عبيدهم وغلمانهم يسبونه ويرمونه بالحجارة حتى أصابوا رجله، وسال الدم من عقبه عليه الصلاة والسلام. فرجع عنهم قاصداً مكة ولكن أنى له بمكة وفيها ألد أعدائه -لقد تكالبت عليه الأعداء من كل جهة- وحينئذ لجأ إلى ربه ومد يديه ودعا بهذا الدعاء العظيم حيث قال: "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين؛ أنت رب المستضعفين. وأنت ربي. إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري. إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات. وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل علي غضبك، أو أن ينزل بي سخطك. لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة غلا بك".

وقد سمع الله عز وجل شكواه فما أتم دعاءه حتى أرسل الله إليه ملك الجبال يستأذنه أن يطبق الأخشبين على أهل مكة -وهما الجبلان اللذان هي بينهما- فقال -صلى الله عليه وسلم-: "بل أستأني بهم، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً".

ويبقى -صلى الله عليه وسلم- أياماً في طريقه بين الطائف ومكة. وقال له زيد بن حارثة رضي الله عنه: كيف تدخل على أهل مكة وقد أخرجوك؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه".

ثم انتهى إلى مكة ودخلها في جوار المطعم بن عدي وأتى البيت العتيق وطاف به -والمطعم بن عدي وأولاده محدقون به، وهم مدججون بالسلاح يحرسونه- حتى دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- بيته.

وبعد ذلك قيض الله له الأنصار من أهل المدينة، فالتقوا به في موسم الحج فآمنوا به وبايعوه على أن يمنعوه إذا قدم إليهم في المدينة مما يمنعون منه نساءهم وأولادهم، فأذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إليهم، فهاجر في شهر ربيع الأول بعد ثلاث عشرة سنة من بعثته، وخرج بصحبته أبو بكر الصديق رضي الله عنه خرجا من مكة خفية لحرص المشركين على منعه من الهجرة، واختفيا في غار ثور ثلاثة أيام والمشركون يطلبونهم من كل وجه. حتى وقفوا على الغار الذي اختفيا به، فيقول أبو بكر للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله؛ والله لو نظر أحدهم إلى قدمه لأبصرنا، فيقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " لا تحزن إن الله معنا". وقد سجل الله ذلك في قوله سبحانه: (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

فلما سمع الأنصار بخروجه إليهم، جعلوا يخرجون كل يوم إلى حرة المدينة ليستقبلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى يشتد بهم حر الظهيرة فيرجعوا إلى بيوتهم. إلى أن حان اليوم الذي أشرقت به طلعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليهم، ففرحوا به فرحاً شديداً، واجتمعوا إليه يحيطون به متقلدي السيوف كل واحد منهم يأخذ بزمام ناقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- يريد منه أن ينزل عنده.

وهكذا جاء الفرج وحان النصر ووجد النبي -صلى الله عليه وسلم- والمهاجرون معه إخواناً لهم من الأنصار (وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

ولما وجد النبي -صلى الله عليه وسلم- الدار والمنعة والأنصار شرع الله له جهاد الكفار الذين يصدون عن سبيل الله فأظهره الله عليهم وأيده بنصره وبالمؤمنين؛ فما هي إلا أعوام قليلة حتى عاد إلى مكة التي أخرج منها فدخلها فاتحاً معززاً منصوراً تحيط به جيوش التوحيد وكتائب الإسلام، فدخلها من أعلاها مكبراً مهللاً خاضعاً لربه شاكراً لنعمته، وطاف بالبيت، ودخل مكة المشرفة، وحطم ما حولها وما عليها من الأصنام، وقال لقريش التي أخرجته بالأمس: "يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟" قالوا: خيراً. أخ كريم وابن أخ كريم. قال: "فإني أقول لكم ما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم- اذهبوا فأنتم الطلقاء" ثم أرسل إلى اللات والعزى ومناة وغيرها من الأصنام من يهدمها.

أيها المسلمون: تذكروا هذه الهجرة العظيمة وما فيها من العبر في كل وقت، فاقتدوا بنبيكم -صلى الله عليه وسلم- في الجهاد والصبر والثبات على الدعوة إلى دين الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم اليأس. اقرؤوا سيرة نبيكم وأحداثها العظام؛ ليقوى يقينكم ويزيد إيمانكم وتنمو معلوماتكم. ولا تكونوا كالذين نسوا هذه الذكريات؛ فلا يلتفتون إليها إلا على رأس السنة حين يقيمون ما يسمونه بالاحتفال بذكرى الهجرة النبوية، وهذا الاحتفال بدعة لم يفعله الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا صحابته، ولو كان خيراً لم يتركوه.

إن المطلوب من المسلمين أن يطلعوا على سيرة نبيهم غير متقيدين بوقت أو احتفال، وأن يعملوا بما يعلمون منها. لأن هؤلاء الذين يقيمون الاحتفال بهذه الذكرى غالبهم لا يعمل بسنة الرسول ولا ينفذ شرعه ولا يقيم دينه، فهم -والعياذ بالله- يقولون ما لا يفعلون. فعلينا أن نتجنب هذه الطريقة البدعية وأن ندرس سيرة نبينا كما كان يدرسها سلفنا الصالح قولاً وعملاً. وفق الله الجميع لذلك.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً).

 

 

 

 

المرفقات

1099

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات