عناصر الخطبة
1/ الاعتبار بمرور الأيام 2/ محاسبة النفس 3/ تأملات في ربط الله تعالى للأوقات بالطاعات 4/ دروس وعبر من الهجرة 5/ الهجرة بهجْر ما نهى الله عنهاقتباس
إنَّ العقيدةَ أغلى من الأرض، وإن التوحيدَ أسمى من الديار، وإنَّ الإيمان أثمنُ من الأوطان، وإنَّ الإسلامَ خيرٌ من كلِّ مُتعِ الدنيا، يبين ذلك خروج النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مع صاحبِه -رضي الله عنه- مهاجرَيْن من الحِمى المبارَك، والحرمِ الآمِن، والأرضِ الطيّبة التي قال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو خارج منها: " عَلِمْتُ أَنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ الْأَرْضِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ".
الخطبة الأولى:
أمّا بعد عبادَ الله: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمان:33].
معاشر المؤمنين: إذا كان الغافلون يرون ذهاب الليالي والأيام مجرد مُضِيّ يومٍ ومجيء آخر، فإنّ أولي الأبصارِ يرون ذلك باعثا من بواعثِ الاعتبار، ومصدَراً مِن مصادِر العِظةِ والتذكرة، يصوِّر ذلك ويبيِّنه قولُ أبي الدرداء -رضي الله عنه-: "يا ابنَ آدم، إنما أنتَ أيّام، فإذا ذهب يومٌ ذهب بعضُك".
قال بعض السلف: "كيف يفرحُ بمرور الأعوام مَن يومُه يهدم شهرَه، وشهرُه يهدم سنتَه، وسنتُه تهدِم عُمُرَه؟! كيف يفرح مَن يقوده عُمُرُه إلى أجله، وحياتُه إلى موته؟!". وقال بعضهم: "مَن كانت الليالي مطاياه سارتا به وإن لم يسِر".
عباد الله: ما أحوجنا لوقفة مراجعةٍ ومحاسبة، كوقفة التاجِر مع تجارته، فتجارة الأعمال الصالحة هي المكسب الحقيقي الذي لا يبور ولا يكسَد ولا يفنى.
أيها المسلمون: من تفكر في نهاية العام المنصرم وبداية العام الجديد، تجلت له حكمة الله -عز وجل- في ربط العباد بالطاعات والقربات، فجعل نهاية العام في شهر حرام، وفيه أعمال جليلة: حَجٌ وعمرةٌ، وصيامُ يوم عرفة لغير الحاجِّ، والتقربُ إلى الله بإراقة الدماء في أفضل أيام الشهر.
وافتتح العام الجديد بفضل صيامِ شهرِ الله المحرَّم، فإنّه أفضلُ الصيامِ بعد رمضان، فعن أبي هريرَة -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيْلِ".
وكفى أن فيه يوم عَاشوراء، الذي قال عنه رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ" رواه مسلم.
واعلموا -عباد الله- أن السُّنّةَ صيامُ يومٍ قبلَه أو يومٍ بعده؛ مخالفة لليهود.
أحبتي في الله: نهايةُ عامٍ وبدايةُ عامٍ جديد يذكرنا بهجرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، التي ابتدأ بها تكوينُ دولةٍ إسلاميةٍ مستقلةٍ يحكمها المسلمون، بعد فترة عاشها الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابُه -رضوان الله عليهم- في مكة يعانون أشد أنواع الاضطهاد والابتلاء.
يأتي خباب بن الأرت -رضي الله عنه- للرسول -صلى الله عليه وسلم- فيقول: يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا؟ ألا تستنصر لنا؟! فيقول له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمِنْشَارِ فَيُجْعَلُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ فِرْقَتَيْنِ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عَظْمِهِ مِنْ لَحْمٍ وَعَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ" رواه البخاري وأبو داود واللفظ له.
وكان بلال -رضي الله عنه- يُوضَع على صدره الحجرُ الكبير في الرمضاء في شدة الحر، ويقال له: اكفر بمحمد، فما يزيد -رضي الله عنه- على قوله: أحدٌ أحد!.
وحاصرت قريشٌ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وبني هاشم في الشعبِ مدةً طويلة، أصابهم فيها مجاعةٌ شديدة، فأكلوا ما لا يمكن أكله، وهم مع ذلك صابرون، حتى جاء نصر الله، وأَذِنَ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه بالهجرة للمدينة، وقريشٌ تحاول منعهم من الهجرة، حتى إنها همّت بقتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتفريقِ دمه في القبائل.
فأَطْلَع الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- على ما أرادت قريشٌ، وأَذِنَ له بالهجرة، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر يرافقه حتى لحقا بالغار، وأخذت قريش تقتص أثرهما، ويمرون بالغار فيصرفهم الله -عز وجل- عنه، حتى إن أبا بكر -رضي الله عنه- يقول: يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لأبصرنا، فيقول له -صلى الله عليه وسلم-: "اسكت يا أبا بكر! اثنان الله ثالثهما".
فكانت تلك الهجرةُ فيصلاً بين الحق والباطل، وأصبح المسلمون بعدها أعزةً أقوياء، حتى علت كلمةُ الله، ونصَر الله ُعبده وجنده.
أيها المسلمون: إن في الهجرة مِن الدّروس والعبَر والفوائد ما يتعذر حصره، ولكنّ مِن أظهرِ ذلك وأوضحه فائدتين وعبرتين ماثلتين أمامَ كلِّ ذِي فِكر راشدٍ أو رَأي سديد.
الأولى: إنَّ العقيدةَ أغلى من الأرض، وإن التوحيدَ أسمى من الديار، وإنَّ الإيمان أثمنُ من الأوطان، وإنَّ الإسلامَ خيرٌ من كلِّ مُتعِ الدنيا، يبين ذلك خروج النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مع صاحبِه -رضي الله عنه- مهاجرَيْن من الحِمى المبارَك، والحرمِ الآمِن، والأرضِ الطيّبة التي قال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو خارج منها: "عَلِمْتُ أَنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ الْأَرْضِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ".
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلْد، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ! وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ". فهيَ مسقطُ رأسِه الشريف، فيها مراتعُ صباه، ومرابِعُ شبابه.
ومفارقة الوطنِ عسيرة على المرء، لكنَّه -صلى الله عليه وسلم- خرجَ من هذه البلدةِ الطيّبة مؤثرًا رِضَا ربِّه، وطاعةَ خالقِه، ومصلحةَ دينِه، ونشرَ عقيدتِه.
أمَّا الثانية فهيَ كمَالُ اليقينِ بأن الله -تعالى- مع عبادِه المؤمنين الصَّادقين، يقين لا تزعزِعُه عواصِفُ الباطل، ولا يهزّه تهديدٌ أو وعيد، يبين ذلك جواب النبي -صلى الله عليه وسلم- حينَ قال أبو بكر-رضي الله عنه-: "والله يا رسول الله، لو أنَّ أحدَهم نظر إلى موضعِ قدمَيه لرآنا!"، فقال له -صلى الله عليه وسلم- مقولة تأخذ بمجامعِ القلوبِ، وتصوّر الإيمانَ في أرفعِ مقاماتِه، وأسمَى درجاتِه، قال: "يَا أبَا بَكر، مَا ظنُّكَ باثنَين اللهُ ثالثُهما؟".
وأنزَلَ الله -سبحانه- مصداقَ ذلك في قوله: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة:40].
ومعيّةُ الله لعباده المؤمنين تكون بتأييدهم وتوفيقهم وحِفظهم ونصرهم، وهذا لأولياء الله المتّقين المحسِنين الذين بذلوا حقَّ الله عليهم من توحِيده في العبادةِ والبعد عن الشركِ، ثمَّ امتثلوا أوامرَه وانتهوا عمَّا نهاهم عنه، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل:128].
أسأل الله -جل وعلا- أن يبارك لي ولكم في القرآن العظيم، ويهدينا لاتباع سيد المرسلين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين...
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وهو على كل شيء قدير، أشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له...
أما بعد عبادَ الله: فاتقوا الله حق التقوى.
عباد الله: إذا كانت الهجرة انتقالاً من دارِ الكفرِ إلى دارِ الإسلامِ، فإنَّها أيضا هجرُ المعاصي، والبعدُ عن الذنوب، وعن كلِّ ما نهى الله عنه. خرّج البخاريّ -رحمه الله- في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ".
فاتقوا الله أيها المسلمون، واستشعروا هذا الحديث، واحرصوا على العمل الذي يبلِّغكم هذه المنزلة العظيمة، فمن بلغها طابت حياتُه، واستقامت أحوالُه، وبلغ رضوانَ ربّه.
أسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا العلمَ النافعَ، والعملَ الصالح، َوالحياةَ الهنيئة، وأن يُبلِّغنا الدرجاتِ العلا من الجنة.
ثم صلّوا وسلّموا -عبادَ الله- على خيرِ البشرية أجمعين، فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم