الهجرة تضحية ونصرة

صالح بن محمد الجبري

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/الإعداد للهجرة والتخطيط لها 2/التضحية في سبيل الهجرة ومقوماتها 3/الهجرة والثقة العظيمة بالله 4/مفهوم النصر وماهيته وأقسامه 5/النصرة الحقيقة للرسول - صلى الله عليه وسلم - بتطبيق شريعته 6/الحكمة من ربط التأريخ بحادثة الهجرة 7/بعض معاني الهجرة وبعض مقاصدها الشرعية

اقتباس

إن النصر في عرف الناس يختلف كل حسب هدفه في الحياة، فهناك من يرى النصر في الحرب، وهناك من يرى النصر في الغلبة على خصمه في أي مجال، وهناك من يرى النصر هو الغلبة بين فريقين في الكرة والرياضة، وهناك .. وهناك!. ولكن النصر الذي يحتفي به القرآن الكريم هو النصر المرتبط بتحقيق أهداف إيمانية أخروية!. والمسلم يرى هذه الدنيا وسيلة لتحقيق النصر الذي يرفع منزلته في الآخرة، وهذا النصر هو الذي تقوم به العدالة في...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

من الأحداث العظيمة في تاريخنا الإسلامي في شهر ربيع الأول حادثة الهجرة النبوية لسيد الخلق محمد -عليه الصلاة والسلام-، وبهذه المناسبة العظيمة مناسبة الهجرة النبوية لنا معها هذه الوقفات:

 

الوقفة الأولى: كلنا يعلم أن الهجرة أعد لها إعدادا دقيقا، استخدمت فيه التكتيكات والاستراتيجيات، فرسول الله –صلى الله عليه وسلم- انتظر الأمر الإلهي، وهذا أساس الإعداد، نحن نُعد بناءً على أمر إلاهي، والله يقول: (وَأَعِدُّواْ)[الأنفال: 60].

 

والرسول انتظر الأمر الإلهي أولاً، ثم انتظر صاحباً أو حليفا، هو سيدنا أبو بكر.

 

إذن الإعداد يقوم على أمر إلهي وعلى اختيار الحليف فمن حلفاؤكم أيها المسلمون؟

 

واختيار المضيف فمن ذا الذي يستقبلك؟

 

لقد هيأ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من خلال الإعداد من يستقبله في المدينة، فقد أرسل قبل الهجرة أناساً مبشرين ممهدين يخططون، إضافة إلى اختيار الطريق والمسار، وقد هاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن طريق الساحل مضحيا، وباذلا الجهد الكبير، وهو في الثالثة والخمسين من عمره؛ لأن رؤيته كانت واضحة، وهي الذهاب إلى المدينة لإقامة الدولة الإسلامية؛ لأنه بدون دولة لن يكون هناك إسلام، ولن تكون هناك دعوة.

 

الوقفة الثانية: الهجرة تبتدئ بتضحية، وتنتهي بنصر، والتضحية، تقوم على أمرين:

 

الأمر الأول: على ابتعاد، ومفاصلة قلبية بين المسلم، وبين أعداء الله المحاربين لدين الله.

 

الهجرة ابتعاد يعقبه إبعاد، ابتعاد عمن عادى الله ورسوله، ابتعاد قلبي ليس في قلبك مودة لمن حاد الله ورسوله، ولو كانوا آباءك ولو كانوا أقربائك، مفاصلة قلبية لا تحمل ودا ولا قربى لمن عادى الله ورسوله، لمن عادى الخير.

 

ابتعاد قلبي يتوجب ابتعاد مكاني، فالرسول ابتعد وابتعد أصحابه قلبيا أو قلبا عن المشركين الذين اعتدوا على القيم والخير، وقال لهم الله: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة: 22].

 

هذا الابتعاد القلبي توج بابتعاد مكاني، نعم ترك رسول الله –صلى الله عليه وسلم- مكة المكرمة، وهي أحب بلاد الله عنده.

 

ابتعاد مكاني إلى المدينة النبوية ليأمن مع أصحابه على دينهم وعلى إيمانهم.

 

ذكر ابن هشام: أن صهيب الرومي عندما هاجر اعترضه أولئك المعتدون، فقالوا له: قد أتيتنا صعلوكا، وقد أراد صهيب أن يبتعد اقتداءً بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وتنفيذا لأمر النبي –صلى الله عليه وسلم- بالابتعاد المكاني والجسمي، قالوا له: أتيتنا صعلوكا لا مال عندك، فغدا عندك مالا، والله لا نتركك تخرج إلى المدينة، قال: أرأيتم لو خليت بينكم ومالي وتركت مالي لكم؟ قالوا له: هات مالك وأخرج، والنبي –صلى الله عليه وسلم- في المدينة أوحي إليه بما جرى مع صهيب، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ربح صهيب".

 

وفي رواية: "ربح البيع أبا يحيى" وكنية صهيب أبو يَحيى.

 

وأنزل الله -سبحانه وتعالى- فيه وفي أمثاله قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) [البقرة: 207].

 

نعم ابتعاد قلبي توج بابتعاد مكاني، جاء بعد الابتعاد إبعادا، تكريما من الله -عز وجل- لهذا الابتعاد القلبي والمادي، أكرم الله أولئك المهاجرين بأن جعلهم قوة تقف أمام الشر وأهله، وعاد بعدها بسنوات قليلة سيد المهاجرين -عليه الصلاة والسلام-، ومن معه إلى مكة المكرمة فاتحا يحمل لواء التوحيد والعدل، والحق والخير، ووقف أمام الكعبة المشرفة ومعه أولئك الذين هاجروا وابتعدوا بقلبهم وقالبهم عن الشرك، وأهل عن الضغينة، عن الحقد، عن كل ما يؤذي الإنسان، عاد إلى مكة المكرمة والأصنام حول الكعبة، فأمسك بعود وراح يكسر الأصنام ويسقطها على الأرض، ويقول: (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) [الإسراء: 81].

 

وهنا نريد أن نتوجه إلى أنفسنا وشبابنا: هل أنتم في دواخلكم مبتعدون ومفاصلون للكفر وأهله، للفساد، للفاحشة، لما يؤذي إنسانيتكم، لما يؤذي دينكم، للظلم، للتكبر، للإسراف، لكل ما يقضي على الطهر؟!

 

هل أنت يا مسلمة: تفاصلين في داخلك بين قلبك وبين كل المغريات التي تؤدي بالمسلمة إلى الحضيض؟ إلى الضياع؟

 

ومن هنا أتوجه إلى نفسي وإلى الجميع: من أجل أن يكون لهم ذكر لله -عز وجل- ينبع من قلوبهم، وعلى ألسنتهم!.

 

ليكن لك –أخي- ضمن وردك اليومي هذا الدعاء: "اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أُضلَ، أو أزل أو أُزل، أو أظلم أو أُظلم، أو أجهل أو يجهل عليَّ".

 

هذا الكلام كان يقوله رسولنا عندما كان يخرج من بيته، فهل تقوله -أخي المسلم-، تقوله -أيها الموظف-، أيها الطالب، أيها التاجر، أيها الجندي، أيها المسئول أيا كان موقعك؟!

 

قل: "اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل".

 

فاصل بين قلبك، ولا تخض مع الخائضين، ولا تقعد مع اللاهين، هاجر من سهرة فارغة ليس فيها إلا المعاصي والذنوب، إلى سهرة مباحة فيها نفع لك في دنياك وأخراك!.

 

هاجر من لقاء ليس فيه إلا الاعتداء على القيم والفضائل، إلى لقاء فيه حض على كل ما ينفع الإنسان، وهكذا، ابتعاد قلبي لا بد منه ليسلم الإنسان بإسلامه ودينه!.

 

الوقفة الثالثة: في الهجرة دروس لمن أراد أن يتحدث عن الثقة بالله، فالهجرة تحوي أعظم الدروس في الثقة بالله -عز وجل-!.

 

ولطالما رددنا باختصار تلك الكلمة التي نحتاجها ونحن في المسجد، في العمل، وفي المنزل، وفي السوق، ونحتاج إليها في كل زمان ومكان؛ إنها كلمة المصطفى -عليه الصلاة والسلام- لسيدنا أبي بكر عندما كانا في غار ثور، وقال له أبو بكر: يا رسول الله نحن ملاحقون، وهاهم المشركون فوقنا، ولو نظر أحدهم أسفل قدمه لرآنا، فرد عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- قائلا: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما".

 

(إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 40].

 

(لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا) ما أجمل هذه العبارة! وما أحوجنا إليها!.

 

فلا تحزنوا أنتم يا من ابتليتم في أرزاقكم، أو أبدانكم، أو أولادكم، لا تحزنوا وقولوا: "إِنَّ اللّهَ مَعَنَا".

 

يا من أجهدكم الفقر، وأثقلتكم الديون، وارتفاع الإيجارات، وأسعار السلع، لا تحزنوا، وقولوا: "إِنَّ اللّهَ مَعَنَا".

 

يا أهل السنة في سوريا، في العراق، في إيران، في لبنان، في ميامار لا تحزنوا : "إِنَّ اللّهَ مَعَنَا".

 

يا أهل فلسطين: "إِنَّ اللّهَ مَعَنَا".

 

أيها المسلمون في كل مكان: لا تحزنوا "إن الله معكم".

 

نعم إننا بحاجة إلى أن نقوي الثقة بربنا في قلوبنا.

 

أدعوا الله، وأنتم موقنون بالإجابة، وإلا فقولوا بربكم: ما فائدة الإيمان إن لم يحض صاحبه على الثقة بالله -عز وجل-؟

 

"ما ظنك باثنين الله ثالثهما".

 

ولاحظ هنا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما!" ولم يقل: ما ظنك بالرسول وظنك بي وبك! والله معنا! ونحو ذلك من التي فيها الخصوصية للرسول -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر -رضي الله عنه-، ولكن ما ظنك باثنين فهي تشمل كل المؤمنين والموقنين بمعية الله لهم، وهي قاعدة مطرده، وليست خاصة بهذا الموقف.

 

وهي بشرى لكل مؤمن بأن الله -عز وجل- معه بحفظه ونصره وتأييده وتوفيقه!.

 

إذاً، لنقل جميعا: يا رب ليس لنا إلا أنت! وليس لنا من معين إلا أنت! وإليك التجأنا! وعليك اعتمدنا! فلا تخيبنا يا رب العالمين! لئن لجأ غيرنا إلى غيرك، فنحن لن نلجأ إلا إليك! ولئن اعتمد الناس على غيرك فلن نعتمد إلا عليك! ولئن لاذ أحد بغيرك فنحن لن نلوذ إلا بك!.

 

يا رب كن معنا، ووفقنا؛ لأنك القائل لنا في كتابك: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ) [الحديد: 4].

 

الوقفة الرابعة: يقول الله -تعالى-: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ) [التوبة: 40].

 

ما هو هذا النصر الذي تتحدث عنه الآية الكريمة؟

 

إن النصر في عرف الناس يختلف كل حسب هدفه في الحياة، فهناك من يرى النصر في الحرب، وهناك من يرى النصر في الغلبة على خصمه في أي مجال، وهناك من يرى النصر هو الغلبة بين فريقين في الكرة والرياضة، وهناك .. وهناك!.

 

ولكن النصر الذي يحتفي به القرآن الكريم هو النصر المرتبط بتحقيق أهداف إيمانية أخروية!.

 

والمسلم يرى هذه الدنيا وسيلة لتحقيق النصر الذي يرفع منزلته في الآخرة، وهذا النصر هو الذي تقوم به العدالة في الدنيا، وتستقيم به الحياة، وتطمئن إليه النفوس، وترتفع به المنازل والغايات.

 

والنصر قسمان:

 

الأول: نصر المسلمين إذا طمعوا في عدوهم بأن يتم الله لهم ما طلبوا، وقصدوا، فينصرهم الله عليهم.

 

الثاني: نصر المستضعف الذي طمع فيه عدوه القادر، فنصر الله أن يرد عنه عدوه!.

 

ولعل هذا هو أنفع النصرين، ونصر الله لرسوله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار، من هذا النوع.

 

ومن العجيب: أن الهجرة سميت نصراً رغم أنه لم تسيل فيها قطرة من الدم، ولم تلتقِ فيها السيوف: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ) [التوبة: 40].

 

وهذا اتساع لمعنى ولمفهوم النصر في حياة المسلمين.

 

فالثبات على المبدأ نصر، والالتزام بالحق نصر، والوصول إلى الأهداف جزئية كانت أم كلية نصر.

 

وفي الهجرة تحقق النصر ولكن لمن؟

 

لأقل جيش يتكون من اثنين في مكان محدود وهو الغار ،كيف حدث ذلك بجنود لم نرها، ولم نعرف عددها ولا عتادها؛ لأن القوة كانت في الثقة بالله، والثبات على مبادئ الدين، والتضحية في سبيله: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ) [التوبة: 40].

 

وما زالت هذه الآية الكريمة تقرأ على المسلمين إلى اليوم، وإلى ما شاء الله، لتذكرهم بما في الهجرة من معاني ودلالات، وعطايا ربانية!.

 

ما زالت تقول لهم: إذا لم تنصروا الرسول –صلى الله عليه وسلم- بتطبيق كامل للشريعة التي جاء بها!.

 

إذا لم تنصروه وقد أصبحتم مئات الملايين، وتملكون من الثروة ووسائل القوة والتمكين ما تملكون!.

 

إذا لم تنصروه ولديكم من وسائل الإعلام، وطرق المعرفة ما يمهد أمامكم السبل: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ) [التوبة: 40] يوم أن لم تكن عدة ولا عتاد، ولا مال ولا حيلة، فهل تبادرون وتنصروه وتنصروا دينكم؛ فيكون لكم شرف المحاولة، وشرف الإنجاز، وتكونوا كالذين قال الله عنهم: (فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [157: الأعراف].

 

أم تتولوا عن نصرته فتكونوا كالذين قال الله عنهم: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم)[محمد: 38]؟!

 

نسأل الله أن نكون من الذين ءامنوا به وعزروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه.

 

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أيها الإخوة المؤمنون: حين أراد المسلمون أن يؤرخوا تأريخا للمسلمين يعرفون به تأريخهم، واعتماد بداية السنة ونهايتها، اقترح البعض: أن يؤرخ بمولد النبي -صلى الله عليه وسلم-.

 

واقترح بعضهم: أن يؤرخ بمبعثه صلى الله عليه وسلم.

 

واقترح البعض الآخر: أن يؤرخ بوفاته صلى الله عليه وسلم.

 

لكنهم في النهاية اتفقوا وأجمعوا على: أن يؤرخوا للمسلمين بالهجرة؛ لأن الهجرة ارتبطت بفكرة، ولم ترتبط بشخص من حيث ميلاده أو وفاته، على عظم الأشخاص الذين نقر بفضلهم، أو أفضليتهم، إلا أن هذه السنة ارتبطت بفكرة الهجرة بشكل خاص.

 

ومن حكم هذا الأمر: أن يفكر الإنسان دائما، يفكر ويدندن حول مفهوم الهجرة، وماذا تعني كلمة الهجرة، ماذا تعني كلمة أن تهاجر من أين وإلى أين؟

 

تهاجر من بلدك، طبعاً، لا، فأنت تعيش في بلد الإسلام، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية".

 

فعليك أن تجاهد وتهاجر، أي تتنقل من وضع سيء كنت فيه إلى وضع حسن، من جهل إلى علم، من ظلم إلى عدل، من معصية إلى طاعة، من التقاطع والهجر إلى التواصل والصلة، من عقوق الوالدين إلى برهما، من الإهمال في تربية الأولاد إلى الاهتمام بهم والإحسان إلى الزوجات، من التبرج والسفور إلى الاحتشام والحجاب، من ارتكاب الفواحش إلى العفة والتوبة، من القسوة إلى الرحمة، من الألفاظ السيئة إلى الطيب من القول!.

 

وهكذا فالهجرة من عبرها: أن تنتقل من وضع سيء كنت فيه إلى وضع حسن، ومن وضع حسن إلى أحسن، وهكذا، ما للترقي من انتهاء.

 

قال أحد السلف: "من استوى يوماه فهو مغبون: إذا كان يومك ولو كان جيدا كأمسك الذي كان جيدا فأنت مغبون".

 

لذا عليك أن تجعل يومك أفضل من أمسك، وأن تجعل غدك أفضل من يومك، وهكذا في ترقي مستمر، يجب أن يحصل ذلك، أي أن اليوم الذي لا يقربك من الله فأنت فيه مغبون!.

 

فهل جلس أحدنا مع نفسه، وسأل هذا السؤال: كيف أنا اليوم مع الله؟ وكيف كنت السنة الماضية أو قبل سنوات؟ مثلاً في أدائي للطاعات والأوامر، وفي اجتنابي للمعاصي والنواهي!.

 

فالأيام بالنسبة لنا تمر، ونقول: ما أسرع الأيام، نعم إن من لا يعمل فسيستعجل الأيام وسيقول عنها: أنها سريعة!.

 

أما الذي يعمل فسيرى الأيام واسعة ومباركة وفضفاضة!.

 

نعم عندما تمر السنوات من غير إنتاج، فلن تشعر بهذه الأيام: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ) [المؤمنون: 112 -113].

 

لن تشعر بهذه الأيام، ولن تشعر بهذه السنين، وستقول لأولادك وأحفادك كلمة خجولة فيها الكثير من الخذلان: "سبحان الله تمر الأيام ولا نشعر".

 

ترى هل قال مثل هذه الكلمة رسول الله وأصحابه؟

 

لم يقولوا هذه الكلمة؛ لأنهم كانوا ينتجون، ومن أنتج لم يشعر بسرعة الأيام!.

 

أما الذي تكاسل وتثاقل إلى الأرض، فسيقول كلمة ظاهرها الرحمة، وباطنها العذاب، سبحان الله ما أسرع الأيام!.

 

أخي المسلم: انطلاقا من الهجرة سطر صفحاتك، دون كتابك، فالهجرة تذكرنا عاما جديدا، وتنبهنا إلى كتاب تعداد صفحاته يقارب ثلاثمائة وخمسة وستون صفحة، كيف تبدأه؟ كيف تقدم له؟ ماذا تكتب فيه؟: صلاة فجر، قيام ليل، قراءة قرآن، طاعة والدين، حسن جوار، إحقاق حق، إبطال باطل، أمر بمعروف، نهي عن منكر؟!

 

سطِّر، اكتب، أعمل، تحرك، فالهجرة حركة!.

 

أنت إذا احتجت للطعام تسعى لتحصل عليه "حركة"! وإذا احتجت للزواج تسعى للزواج "حركة"! وإذا احتجت لإثبات الذات تسعى للجد والاجتهاد من أجل التفوق "حركة"! فلماذا لا تتحرك من أجل دينك؟ من أجل إسلامك؟ ومن أجل عقيدتك؟ من أجل ربك؟

 

تحرك ولا تظلم نفسك بالقعود والجلوس، والركون والسكون، وإلا يخشى عليك أن تكون من أهل هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً) [النساء: 97].

 

لذلك لا تبقى مع الظالمين، أو المنافقين، أو الكذابين، أهجرهم، إنها الهجرة بمعناها الواسع، ولا تبقى مع أرباب الذنوب والآثام، ولا تستمر في كهف المعاصي، بل انتقل فورا إلى كهف الطاعات، تدركك من الله البركات والرحمات: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) [الكهف: 16].

 

والكهف هنا بمعناه الواسع أيضا، أنت في عملك تتقنه لترفع من شأن أمتك، فأنت مهاجر! أنت في غرفتك تذاكر لتتفوق وتخدم دينك فأنت مهاجر! أنت في مصلاك تذكر ربك وتشكره ليهديك الطريق فأنت مهاجر! أنت ترفع لواء الحق وتسقط لواء الباطل، وتغيظ أعوان الباطل فأنت مهاجر! وهذا ما عناه النبي –صلى الله عليه وسلم-: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا".

 

فهل يفهم المسلمون ذلك؟ نرجو هذا ونتمناه!.

 

وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.

 

اللهم صل على من بلغ البلاغ المبين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

 

وارض اللهم عن الخفاء الأربعة، والأئمة البررة؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.

 

 

 

 

المرفقات

تضحية ونصرة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات