الهجرة الشرعية والهجرة غير الشرعية

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2024-07-06 - 1445/12/30
التصنيفات:

 

 

كتبه/ سيد عبد الهادي

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

 

ففي عصر انقلاب الموازين وزلزلة الثوابت تخرج علينا كل يوم فتن تجعل الحليم حيراناً إلا من تمسك بكتاب ربه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- علماً وعملاً.

 

فلا شك أن حوادث غرق إخواننا وأبنائنا على السواحل الأوروبية قد فجَّر قضية "الهجرة الشرعية وغير الشرعية".

 

وأصبح الناس فريقان، فهذا يقول هؤلاء شهداء، والفريق الأخر يقول: بل هؤلاء طمَّاعون.

 

ونحن نرجو لجميع المسلمين حسن الخاتمة، ولكن لابد من بيان الخطأ لكي نتجنبه مستقبلاً. وكذلك لابد من بيان أمر يغفل عنه أكثر الناس، وهو أنه برغم جريان الاصطلاح المعاصر بإطلاق "الهجرة الشرعية" على تلك التي تكون موافقة للقوانين الوضعية، و"غير الشرعية" على التي تخالفها؛ فإننا لا ينبغي أن ننسى أن هذه الاصطلاحات تخالف من حيث الدلالة ما هو معتبر عندنا شرعاً بالنسبة لأمر الهجرة.

 

ويزداد الأمر خطورة كلما ارتفع العلم من بين الناس، وبقيت هذه الاصطلاحات الأجنبية عنا هي وحدها التي يُرد إليها الأمر دون النظر إلى موقف الشرع من ذلك.

 

فإن من التضليل والتلبيس على الناس أن يقتصر إطلاق لفظ الهجرة الشرعية على السفر إلى بلاد الكفار أو غيرهم بشرط موافقتهم على ذلك، فإن الهجرة الشرعية هي الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام وليس العكس.

 

وقد ذكر العلماء أنواع الهجرة:

 

فقال النووي -رحمه الله-:

 

"أصل الهجرة المجافاة والترك، فاسم الهجرة يقع على أمور:

 

الأول: هجرة الصحابة -رضي الله عنهم- من مكة إلى الحبشة حين آذى المشركون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فهاجر الصحابة إلى بلاد النجاشي، وكانت هذه الهجرة بعد البعثة بخمس سنين. قاله البيهقي.

 

الهجرة الثانية: من مكة إلى المدينة، وكانت هذه بعد البعثة بثلاث عشرة سنة، وكان يجب على كل مسلم بمكة أن يهاجر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وأطلق جماعة أن الهجرة كانت واجبة من مكة إلى المدينة، ولكن هذا ليس على إطلاقه فإنه لا خصوصية للمدينة، وإنما الواجب الهجرة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

 

قال ابن العربي: "قسَّم العلماء -رضي الله عنهم- الذهاب في الأرض: هرباً، وطلباً، فالأول ينقسم إلى ستة أقسام:

 

الأول: الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، وهي باقية إلى يوم القيامة، والتي انقطعت بالفتح في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا هجرة بعد الفتح) متفق عليه، هي القصد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث كان.

 

الثاني: الخروج من أرض البدعة. قال ابن القاسم: سمعت مالكاً يقول: "لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يُسَبُّ فيها السلف".

 

الثالث: الخروج من أرض يغلب عليها الحرام، فإن طلب الحلال فريضة على كل مسلم.

 

الرابع: الفرار من الأذية في البدن، وذلك فضل من الله -تعالى- أرخص فيه، فإذا خشي على نفسه في مكان فقد أذن الله -تعالى- له في الخروجِ عنه والفرارِ بنفسه يخلصها من ذلك المحذور، وأول من فعل ذلك إبراهيم -عليه السلام- حين خاف من قومه قال: (إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي)(العنكبوت:26)، وقال -تعالى- مخبراً عن موسى -عليه السلام-: (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ)(القصص:21).

 

الخامس: الخروج خوفَ المرض من البلاد الوخِمة إلى أرض النزهة، وقد أذن -صلى الله عليه وسلم- للعرنيين في ذلك حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المرج.

 

السادس: الخروج خوفاً من الأذية في المال، فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه.

 

وأما قسم الطلب فإنه ينقسم إلى عشرة؛ طلب دين، وطلب دنيا،

 

وطلب الدين ينقسم إلى تسعة أنواع:

 

القسم الأول: سفر العبرة؛ قال الله -تعالى- (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)(فاطر: 44)، وقد طاف ذو القرنين في الدنيا ليرى عجائبها.

 

القسم الثاني: سفر الحج.

 

القسم الثالث: سفر الجهاد.

 

القسم الرابع: سفر المعاش.

 

القسم الخامس: سفر التجارة والكسب الزائد على القوت، وهو جائز لقوله -تعالى- (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ)(البقرة:198).

 

القسم السادس: طلب العلم.

 

القسم السابع: قصد البقاع الشريفة، قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) متفق عليه.

 

القسم الثامن: قصد الثغور للرباط بها.

 

القسم التاسع: زيارة الإخوان في الله -تعالى-، قال -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَّ رَجُلاً زَارَ أَخًا لَهُ فِى قَرْيَةٍ أُخْرَى فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ أَيْنَ تُرِيدُ قَالَ أُرِيدُ أَخًا لِى فِى هَذِهِ الْقَرْيَةِ. قَالَ هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا قَالَ لاَ غَيْرَ أَنِّى أَحْبَبْتُهُ فِى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ فَإِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ) رواه مسلم وغيره.

 

الهجرة الثالثة: هجرة القبائل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليتعلموا الشرائع، ويرجعوا إلى قومهم فيعلموهم.

 

الهجرة الرابعة: هجرة من أسلم من أهل مكة ليأتي النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم يرجع إلى قومه.

 

الهجرة الخامسة: الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، فلا يحل للمسلم الإقامة بدار الكفر. قال الماوردي: فإن صار له بها أهل وعشيرة، وأمكنه إظهار دينه لم يجز له أن يهاجر، لأن المكان الذي هو صار دار إسلام.

 

الهجرة السادسة: هجرة المسلم أخاه فوق ثلاث بغير سبب شرعي: وهي مكروهة في الثلاث وفيما زاد حرام إلا لضرورة.

 

الهجرة الثامنة: هجرة ما نهى الله عنه: وهي أعَمُ الهجرة.

 

وبيَّن العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- شروط السفر إلى بلاد الكفار فيقول:

 

"وقد ذكر أهل العلم أنه تجب الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يظهر دينه، وأما إذا كان قادراً على إظهار دينه ولا يُعارَض إذا أقام شعائر الإسلام؛ فإن الهجرة لا تجب عليه ولكنها تستحب، وبناءً على ذلك يكون السفر إلى بلد الكفر أعظم من البقاء فيه، فإذا كان بلد الكفر الذي كان وطن الإنسان إذا لم يستطع إقامة دينه فيه وجب عليه مغادرته والهجرة منه، فكذلك إذا كان الإنسان من أهل الإسلام ومن بلاد المسلمين، فإنه لا يجوز له أن يسافر إلى بلد الكفر لما في ذلك من الخطر على دينه وعلى أخلاقه، ولما في ذلك من إضاعة ماله، ولما في ذلك من تقوية اقتصاد الكفار، ونحن مأمورون بأن نغيظ الكفار بكل ما نستطيع كما قال -تبارك وتعالى- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(التوبة: 123)، وقال -تعالى-: (وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(التوبة: 120).

 

فالكافر أياً كان، سواء كان من النصارى أو من اليهود أو من الملحدين، وسواء تسمَّى بالإسلام أم لم يَتَسم بالإسلام، الكافر عدو لله ولرسوله وللمؤمنين جميعاً، مهما تلبَّس بما يتلبَّس به؛ فإنه عدو!! فلا يجوز للإنسان أن يسافر إلى بلد الكفر إلا بشروط ثلاثة:

 

الشرط الأول:

 

أن يكون عنده علم يدفع به الشبهات؛ ولأن الكفار يوردون على المسلمين شُبَهاً في دينهم، وفي رسولهم وفي كتابهم، وفي أخلاقهم، في كل شيء يوردون الشبهة ليبقى الإنسان شاكاً متذبذباً، ومن المعلوم أن الإنسان إذا شك في الأمور التي يجب فيها اليقين؛ فإنه لم يقم بالواجب، فالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، يجب أن يكون يقيناً، فإن شك الإنسان في شيء من ذلك فهو كافر.

 

فالكفار يُدخلِون على المسلمين الشك، حتى أن بعض زعمائهم صرح قائلاً: "لا تحاولوا أن تخرجوا المسلم عن دينه إلى دين النصارى، ولكن يكفي أن تشككوه في دينه؛ لأنكم إذا شككتموه في دينه سلبتموه الدين، وهذا كافٍ".

 

أنتم أخرجوه من هذه الحظيرة التي فيها العزة والغلبة والكرامة ويكفي، أما أن تحاولوا أن تدخلوه في دين النصارى المبني على الضلال والسفاهة فهذا لا يمكن؛ لأن النصارى ضالون كما جاء في الحديث عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان فدين المسيح دين حق، لكنه دين الحق في وقته قبل أن يُنسخ برسالة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

 

الشرط الثاني:

 

أن يكون عنده دين يحميه من الشهوات؛ لأن الإنسان الذي ليس عنده دين إذا ذهب إلى بلاد الكفر انغمس؛ لأنه يجد زهرة الدنيا هناك، من خمر وزنى ولواط وغير ذلك.

 

الشرط الثالث:

 

أن يكون محتاجاً إلى ذلك، مثل أن يكون مريضاً يحتاج إلى السفر إلى بلاد الكفر للاستشفاء، أو يكون محتاجاً إلى علم لا يوجد في بلاد الإسلام تخصص فيه فيذهب إلى هناك أو يكون الإنسان محتاجاً تجارة، يذهب ويتجر ويرجع. المهم أن يكون هناك حاجة، ولهذا أرى أن الذين يُسافرون إلى بلد الكفر من أجل السياحة فقط، أرى أنهم آثمون، وأن كل قرش يصرفونه لهذا السفر فإنه حرام عليهم، وإضاعة لمالهم، وسيحاسبون عنه يوم القيامة حين لا يجدون مكاناً يتفسحون فيه أو يتنزهون فيه، حين لا يجدون إلا أعمالهم؛ لأن هؤلاء يضيعون أوقاتهم، ويتلفون أموالهم، ويفسدون أخلاقهم، وكذلك ربما يكون معهم عوائلهم، ومن عجب أن هؤلاء يذهبون إلى بلاد الكفر التي لا يُسمع فيها صوت مؤذن، ولا ذكر ذاكر، وإنما يُسمع فيها أبواق اليهود، ونواقيس النصارى، ثم يبقون فيها مدة هم وأهلوهم وبنوهم وبناتهم، فيحصل في هذا شر كثير، نسأل الله العافية والسلامة.

 

أقول مرة ثانية: إن الهجرة من بلد الكفر الذي لا يستطيع أن يقيم الإنسان فيه دينه واجبة. والسفر إلى بلاد الكفر للدعوة يجوز إذا كان له أثر وتأثير هناك فإنه جائز؛ لأنه سفر لمصلحة، وبلاد الكفر كثير من عوامهم قد عُمِّي عليهم الإسلام لا يدرون عنه شيئاً، بل قد ضُلِّلوا وقيل لهم: "إن الإسلام دين وحشية وهمجية ورعاع"، ولاسيما إذا سمع الغرب هذه الحوادث التي جرت على يد أناس يقولون أنهم مسلمون، سيقولون أين الإسلام؟! هذه وحشية!! فينفرون من الإسلام بسبب المسلمين وأفعالهم، نسأل الله أن يهدينا أجمعين.

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات