أ. د. أكرم ضياء العمري
تُطلَق الهجرة على الترك والتخلي عن الشيء، فالمهاجر مَن هجَر ما نهى الله عنه - كما في الحديث الشريف - وهي بهذا المعنى مطلقة من قيود الزمان والمكان؛ إذ بوسع كل مسلم أن يكون مهاجرًا بالالتزام بأوامر الله وهجْر المعاصي.
لكن الهجرة النبوية تتعلق بترك الموطن والانخلاع عن المكان بالتحوُّل عنه إلى موطن آخر ابتغاء مرضاة الله، رغم شدة تعلُّق الإنسان بموطنه، وأُلفته للبيئة الطبيعية والاجتماعية فيه، وقد عبَّر المهاجرون عن الحنين إلى مكة بقوة، وخاصة في أيامهم الأولى؛ حيث تشتد لَوعتهم.
وتحتاج الهجرة إلى القدرة على التكيُّف مع الوسط الجديد "المدينة المنورة"؛ حيث يختلف مناخها عن مناخ مكة، فأُصيب بعض المهاجرين بالحمَّى، كما يختلف اقتصادها الزراعي عن اقتصاد مكة التجاري، فضلًا عن ترك المهاجرين لأموالهم ومساكنهم بمكة، لكن الاستجابة للهجرة كانت أمرًا إلهيًّا، لا بد من طاعته، واحتمال المشاق من أجل تنفيذه، فقد اختار الله مكان الهجرة؛ كما في الحديث الشريف: ((رأيت في المنام أني أُهاجر من مكة إلى أرض بها نخلٌ، فذهب وهَلي إلى أنها اليمامة أو هجَرُ، فاذا هي المدينة يثرب)).
وما إن بدأ التنفيذ حتى مضَت مواكب المهاجرين تتْرَى نحو الموطن الجديد:
دار الهجرة، وقد شاركت نساء في حدث الهجرة المبارك؛ منهنَّ: أُم سلمة هند بنت أبي أُمية التي تعرَّضت لأذًى بالغٍ من المشركين الذين أرادوا منْعها من الهجرة، ثم استلُّوا ابنها الرضيع منها حتى خلعوا يده، لكنها صمَّمت على الهجرة، ونجحت في ذلك رغم الأخطار والمصاعب، وخلَّدت أسماء بنت أبي بكر ذِكرَها في التأريخ، وحازت لقب "ذات النطاقين" عندما شقَّت نِطاقها نصفين؛ لتشد طعام المهاجِرَين - رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر رضي الله عنه - وقد تتابعت هجرة النساء في الإسلام، حتى شرعت في القرآن: ﴿ إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ﴾ [الممتحنة: 10]، ونزلت الآيات الكريمة تأمر بالهجرة، وتوضِّح فضلها منذ السنة التي وقعت فيها إلى سنة 8هـ، وعند ذلك أُوقِفت الهجرة، وأعلن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: ((لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونيَّة، وإذا استُنْفِرتُم فانفِروا)).
والأمر بالهجرة إلى المدينة؛ لأنها صارت مَأْرِز الإيمان وموطن الإسلام، وشرع فيها الجهاد لمواجهة الأعداء المتربصين بها من قريش واليهود والأعراب، فكان لا بد من إمدادها بالطاقة البشرية الكافية؛ مما يفسِّر سبب نزول القرآن بهذه الآيات الواعدة للمهاجرين؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّه ﴾ [البقرة: 218]، ﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾ [النحل: 41]، ﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ﴾ [النساء: 100].
وقد حازَ المهاجرون شرفًا عظيمًا في الدنيا، فضلًا عن ثواب الله ووعده الكريم، فقد اعتُبِروا أهل السَّبق في تأسيس دولة الإسلام، فنالوا رضا الله والقربى منه؛ ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ﴾ [التوبة: 100]، وهكذا خلَّد الله ذِكرهم في القرآن الذي يتعبَّد المسلمون بتلاوته إلى آخر الزمان.
الهجرة من سُنن الأنبياء عليهم السلام:
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أول نبي يهاجر في سبيل الله، بل مرَّ بهذا الامتحان كثير من الأنبياء، وقد أخبرنا الله تعالى بأن إبراهيم عليه السلام هاجر من موطنه إلى مصر وغيرها، داعيًا إلى التوحيد، وأن يعقوب ويوسف عليهما السلام هاجرَا من فلسطين إلى مصر، وأن لوطًا هجر قريته لفسادها وعدم استجابتها لدعوته، وأن موسى عليه السلام هاجَر بقومه من مصر إلى سيناء؛ فرارًا بدينه من طغيان فرعون.
وهكذا؛ فإن الهجرة من سنن النبيين، وقد كانت هجرة نبينا عليه الصلاة والسلام خاتمة لهجرات النبيين، وكانت نتائجها عميقة، شكَّلت منعطفًا تاريخيًّا حاسمًا.
المنعطف الحاسم:
لقد أدَّت الهجرة إلى قيام دولة الإسلام في المدينة، والتي أرست ركائز المجتمع الإسلامي على أساس من الوَحدة والمحبَّة، والتكافل والتآخي، والحرية والمساواة، وضمان الحقوق، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم هو رئيس هذه الدولة وقائد جيوشها، وكبير قُضاتها، ومعلمها الأول، وقد طبَّق الرسول صلى الله عليه وسلم شريعة الإسلام، وكان القرآن يَنزل بها مُنجَّمًا، فكان الصحابة يدرسون ما ينزل ويُطبقونه على أنفسهم، ويتعلمون تفسيره وبيانه من النبي صلى الله عليه وسلم، فتكوَّن جيلٌ رباني، تمكَّن من الجمع بين عبادة الله وعمران الحياة، وعمِل تحت شعار: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا".
وفي خلال عقد واحد توحَّد معظم الجزيرة العربية في ظل الإسلام، ثم انتشر في خلال عقود قليلة تالية، ليعم منطقة واسعة امتدَّت من السند شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا؛ حيث آمَن الناس بالإسلام، واستظلوا بشريعته العادلة، وأقاموا حضارة زاهرة آتت أُكلها قرونًا طويلة في حقول التشريع والتربية، وعلوم الكون والطبيعة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم