عناصر الخطبة
1/في ظلال قوله تعالى: ( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ) 2/صحبة أبي بكر للنبي عليه الصلاة والسلام وهجرتهاقتباس
عليكم بمنزلة الصحبة الدعوية، نعم، الصحبة الدعوية، الصحبة على الدعوة وفي طريق الدعوة ولجل الدعوة، إنها نوع من الصحبة لا يرقى له نوع غيره من أنواع الصحبة. من أراد الجنة فليبحث عن صحبة الدعوة. أخي احذر من صحبة تجعل منك...
الخطبة الاولى:
أيها المسلمون: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
رجل الهجرة الثاني، هو ذاك الرجل الذي سطرت آية الهجرة في كتاب الله العزيز هجرته مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وخلدت ذكراه، وحفرت في التاريخ صحبته، من هو؟ إنه الذي قال الله في حقه: (وَلَسَوْفَ يَرْضَى)، إنه الذي قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حقه: "فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟". نعم، إنه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، رجل الهجرة الثاني.
لقد شاءت حكمة الله -تعالى- أن يخلد رجل الهجرة الثاني ومواقفه في الآية رقم أربعين من سورة التوبة. إذ يقول الله فيها: (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ)[التوبة: 40].
أيها المسلمون: (ثَانِيَ اثْنَيْنِ): الثاني: هو كل من كان به العدد اثنين. و(ثَانِيَ اثْنَيْنِ): أي أحد اثنين، والاثنان هما: النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر الصديق -رضي الله عنه-؛ فلما تقرأ قوله تعالى ثاني اثنين فعليك أن تعلم أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- حاضر في هذا النص القرآني الخالد، وأنه هو المعني بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أصبحا اثنين. وهذا تخليد قرآني لأبي بكر وهو مهاجر إلى الله -تعالى-.
عباد الله: إن الذي اختار أبا بكر ليكون صاحب النبي -صلى الله عليه وسلم-. تقول لنا كتب السيرة والسنة الصحيحة: أنه لما جاء الإذن بالهجرة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابَتين، وهما الحرتان. فهاجر من هاجر قبل المدينة. وتجهز أبو بكر ليهاجر. فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "على رسلك لا تعجل، لعلّ الله يجعل لك صاحبا"؛ فإني أرجو أن يؤذن لي. فقال له أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي وأمي أنت؟ قال: نعم. فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ليصحبه، وعلف راحلتين عنده، وجلس ينتظر أربعة أشهر.
عباد الله: وبعد مضي الأشهر الأربع، استمع معي إلى ما قالت عائشة -رضي الله عنها-: "لَقَلَّ يَوْمٌ كَانَ يَأْتِي عَلَى النبي -صلى الله عليه وسلم- إِلَّا يَأْتِي فِيهِ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَيْ النَّهَارِ. ولك أن تتصور هذا أن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كان يزور أبا بكر في بيته كل يوم مرتين. فأيّ شرف هذا؟ وأيّ مكانة وأي قدر لهذا الرجل العظيم؟. قالت عائشة: فَلَمَّا أُذِنَ لَهُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ لَمْ يَرُعْنَا إِلَّا وَقَدْ أَتَانَا ظُهْرًا فَخُبِّرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: مَا جَاءَنَا النبي -صلى الله عليه وسلم- فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا لِأَمْرٍ حَدَثَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: "أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ" قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ يَعْنِي عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ، قَالَ: "أَشَعَرْتَ أَنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ"، قَالَ: الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "الصُّحْبَةَ"، قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ عِنْدِي نَاقَتَيْنِ أَعْدَدْتُهُمَا لِلْخُرُوجِ فَخُذْ إِحْدَاهُمَا قَالَ: "قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ".
أيها المؤمنون بالله وبرسوله: (إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ): إذ هما، مَنْ؟ سيد الخلق نبي الله صلى الله عليه سلم، وأكرم رجل بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- إنه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-. أين هما في الغار. لا في قصور مشيدة، في الغار: في كهف مظلم من بين كهوف جبال مكة الشاهقة القاسية. لماذا يا رسول الله، لماذا يا أبا بكر أنتما في الغار؟ لماذا. الإجابة الوحيدة الشريفة في سبيل الله، لأجل دين الله، لأجل أن يرضى الله. فما يضير المجاهدين والدعاة وحملة راية الدفاع عن الأمة وأرضها وشرفها ومقدساتها في كل زمان ومكان أن يعيشوا في كهوف أو مغارات أو سراديب أو بساتين أو ملاجئ فراراً بدينهم أو انتصاراً لدينهم في سبيل الله ولأجل كلمة الله، فرسولهم -صلى الله عليه وسلم- عاش واختبأ في غار. وهنا رجل الهجرة الثاني يتحمل معاناة الهجرة ويختبئ في غار موحش، وينام فيه، ويصحو فيه، ويصلي فيه، كل هذا نصرة للدعوة، كل هذا فقه منه أن طريق الدعوة تماما كطريق الهجرة لا بد فيها من المعاناة والمصابرة وتحمل الآلام.
أيها المؤمنون بالله وبرسوله: (إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ): ولما وصلا الغار، وأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ينزل فيه، وقف أبو بكر الصديق موقفا شجاعا فيه كل معاني التضحية للدعوة والصحبة الصادقة للداعية الأول سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وإذا به يقول للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "مكانك حتى أستبرئ لك، فلو كان به أذى نزل بي قبلك". نزل بي الأذى قبلك يا رسول الله. نفسي دونك. لتلدغني الأفاعي أو تجرحني الطيور أو تفترسني الحيوانات فجسدي دون جسدك، المهم أن تبقى سالما. ثم نزل أبو بكر فتحسس الغار فلم يجد به شيئا، فنزل رسول الله وقد بلغ منه العناء والإعياء والتعب مبلغه، فما أن دخلا حتى توسد الرسول -صلى الله عليه وسلم- قدم أبي بكر رضي الله عنه ونام". حتى رجل أبي بكر -رضي الله عنه- حتى قدمه -رضي الله عنه- سخرها للدعوة ولخدمة الداعية الأول ولراحة النبي -صلى الله عليه وسلم-. إنه تقدير الله -تعالى-، لتشهد الهجرة بتفاني هذا الصاحب العظيم في خدمة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
أيها المؤمنون بالله وبرسوله: (إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ): الصديق وما أدراك ما الصديق، لم تنم عيناه، "كان يأخذ من ثوبه ويسد به فم الأحجار خشية أن يكون شيء من الهوام، فتؤذي رسول الله، فبقي منها حجر فألقمه قدمه فلدغ. فمنعه مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم منه أن يتململ، ولكن الألم لما اشتد به تحدّرت دموعه الزكية فسقطت على وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستيقظ، فقال ما لك يا أبا بكر فأخبره بما حدث فتفل عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبرئت بإذن الله -تعالى-".
عباد الله: وتتابع الآية أربعين من سورة التوبة، آية الهجرة تصوير وعرض حلقات المشهد داخل الغار: فتقول لنا الآية الكريمة متابعة: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ)[التوبة: 40]؛ من يقول لمن؟ ولماذا؟
إذ يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لصاحبه: لأبي بكر -رضي الله عنه-.
هذا الجزء من هذه الآية من أعظم الكلام في منزلة الصديق.
(إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه): قال القرطبي: هذه الآية تضمنت فضائل الصديق -رضي الله عنه-، فحقق الله له تعالى قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر بكلامه سبحانه، ووصف الصحبة في كتابه. لماذا إذن؟ لأنها سطرت "الصحبة" في القرآن وبكلام الله -تعالى-.
وهنا، ولما قرأت قول الله: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه) تذكرت قول أبي بكر للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما جاءه لبيته ليخبره بأمر الهجرة: "الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ". وهنا يحقق الله -تعالى- مراد أبي بكر وطلبه ويصدقه الله ويسجل صحبته هذه التي طلبها بلسانه يسجلها بآية كريمة تتلى إلى يوم القيامة.
(إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه). قال الليث بن سعد: ما صحب الأنبياء -عليهم السلام- مثل أبي بكر الصديق.
فأعظم صحبة عرفها التاريخ بين اثنين هي بين الرسول وأبي بكر. ولماذا؟ لأن الله شهد لها، ولأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنفسه شهد لها.
فقد قال صلى الله لعيه وسلم: "إن أمنّ الناس عليّ في صحبته أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكنها أخوة الإسلام ومودته".
أيها المؤمنون بالله وبرسوله: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه): نعم، إنك الصاحب الكبير لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد قال يوما للناس لما رأى بعضهم قد ضايق الصديق: "إن الله أرسلني إليكم، فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي".
فويل لمن يؤذي الصديق، وويل لتلك الفرقة الضالة من الشيعة الرافضة الذين يكفرون أبا بكر الصديق ويلعنونه ويجاهرون بعداوته. حتى وصل الأمر ببعضهم ليؤلف كتابا يزعم فيه أن الذي هاجر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- هو رجل اسمه: بن بكر وليس أبو بكر. قال القرطبي: من أنكر أن يكون أبو بكر -رضي الله عنه- صاحب رسول الله فهو كافر لأنه رد نص القرآن".
(إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ): لا تحزن إن الله معنا. يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذلك للصديق: لا تحزن، إن الله معنا. لماذا قال له النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك؟ لماذا هل كان أبو بكر الشجاع يرتجف خوفا على نفسه؟ حاشاه. روى البخاري في صحيحه عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "كُنْتُ مَعَ النبي -صلى الله عليه وسلم- فِي الْغَارِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِأَقْدَامِ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَوْ أَنَّ بَعْضَهُمْ طَأْطَأَ بَصَرَهُ رَآنَا قَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ اثْنَانِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا".
عباد الله: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّه): لصاحبه، وقد كان الصديق يعرف حق صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظيم شرفها. ففي الطريق، رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عجبا، رآه مرة يسير أمامه ومرة خلفه ومرة يسير عن يمينه ومرة عن شماله. فسأله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فقال يا رسول الله: "أذكر الطلب فأمشي خلفك، وأذكر الرصد فأمشي أمامك، فأكون أمامك، ومرة عن يمينك ومرة عن شمالك"..
كل هذا فداء لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحماية لجنابه الشريف وشخصه الكريم.
عباد الله: يقول ابن العربي: قال موسى: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الشعراء: 62]، وقال محمد: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)؛ لا جرم، لما كان الله مع موسى وحده ارتد أصحابه بعده، فرجع من عند ربه لما كلمه ووجدهم قد عبدوا العجل. ولما قال محمد: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) بقي أبو بكر مهتديا موحدا عالما جازما قائما بالأمر.
أيها الأخوة المؤمنون: عليكم بمنزلة الصحبة الدعوية، نعم، الصحبة الدعوية، الصحبة على الدعوة وفي طريق الدعوة ولجل الدعوة، إنها نوع من الصحبة لا يرقى له نوع غيره من أنواع الصحبة. من أراد الجنة فليبحث عن صحبة الدعوة. أخي احذر من صحبة تجعل منك داعية إلى جهنم. احرص على صحبة تجعل منك داعية إلى الرحمة. نريد اليوم أن نحيي هذه الصحبة، أصحاب دعاة إلى الله، أصحاب حملة لهم الدعوة، أصحاب على طريق محمد -صلى الله عليه وسلم-. نعم، فصحبة الدعوة أكرم صحبة وأرقى صحبة وأنفس صحبة، لا مثيل لها. من أراد أن يضمن الطريق إلى الجنة فليضمن لنفسه صحبة له في طريق الدعوة. يعيش عليها ويموت عليها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أيها المؤمنون: لقد فَقِه رجل الهجرة الثاني، أبو بكر -رضي الله عنه-، أنّ نصرة الله لا بد أن تكون بأقصى طاقة المؤمن، وبكل ما أوتي من إمكانات، فوظّف -رضي الله عنه- فَلَذات كبده لنصرة الدعوة وخدمة دين الله، فأشرك أولاده ذكوراً وإناثاً معه في مناصرة كلمة الله، ودعم مسيرة الدعوة؛ لتنتشر في الآفاق، فها هو ابنه عبد الله يقوم بدور حسّاس ودقيق في أحداث الهجرة، فيكون عينا على قريش يتابع تحركاتهم، ويكشف مخططاتهم في تعطيل مسيرة الهجرة والمكر بأعظم مُهاجِرَيْن عرفهما التاريخ في سبيل الله: الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر -رضي الله عنه-، يحصل على تلك المعلومات لينقلها بعد ذلك في المساء بطريقة دقيقة إليهما ليتدبرا أمرهما. ويبيت حارسا عند الغار ثم يعود صباحا إلى مكة دون أن يشعر به أحد.
وتلكم أيضا عائشة ناصرة الدين بالعلم والتعلم التعليم، وأسماء التي ارتبط اسمها بأحداث الهجرة حيث عُرِفت فيها بذات النطاقين لقيامها بتزويد الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصديق -رضي الله عنه- بالطعام حينما قطعت نطاقها لتربط به وعاء الطعام. تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: فجهزناهما -تقصد رسول الله وأباها- أحسن الجهاز فصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فلذلك سميت ذات النطاقين.
إن هذه النصرة العملية لدين الله من قبل أولاد الصديق جاءت ثمرة فقه سديد منه -رضي الله عنه- لمعنى نصرة الله وتربية صادقة لأولاده على معانيها فكان أن ترجمت في هذا الموقف وفي غيره، وهذا، -يا أيها المؤمنون-، ما تحتاجه الأسرة المسلمة اليوم أنْ يتربى جميع أفراد العائلة على المشاركة الإيجابية في نصرة دين الله بكل بما يتاح أمامها من أساليب ووسائل وبما يتوافر بين يديها من إمكانات مادية وعقلية وغيرها.
اللهم اجعل أعمالنا صالحة واجعلها لوجهك خالصة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم