د. أمين الدميري
الهجرة لغة: هجر: الهجر ضد الوصل، والاسم: الهِجْرة، والمهاجرة من أرض إلى أرض: تركُ الأولى للثانية، والتهاجر: التقاطع[1]، والمهاجرون من الصحابة: جماعةٌ، وهاجرتُ من بلد إلى بلد مهاجرةً وهجرةً، وقيل لأعرابية: هل عندك من غذاء؟ قالت: نعم خبز ضمير، وحيس فطير، ولبن هجير، وماء نمير: وهو اللبن الخاثر الطيب، لم يحمض بعد[2].
على أن المراد بالذين هاجروا هم المسلمون مِن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين تركوا مكة إلى المدينة المنورة، ويظلُّ المعنى العامُّ للهجرة، وهو الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، ومن أرض المعاصي والأرض الظالم أهلها إلى أرض أخرى أكثر أمنًا وسلامًا، وهي الهجرة (هربًا) من فتنة أو من ظلم، وهناك نوع آخر، وهو الهجرة طلبًا، وقد ذكر القرطبي أقوال العلماء في الهجرة، وهي كما يلي:
1 - الهجرة (هربًا): وهي تنقسم إلى ستة أقسام:
القسم الأول: الهجرة: وهي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، وكانت فرضًا في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الهجرة باقيةٌ مفروضة إلى يوم القيامة، (والتي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان)، فإن بقي في دار الحرب عصى، ويختلف في حاله.
الثاني: الخروج من أرض البدعة: فإن المنكر إذا لم تقدر أن تغيره فزُلْ عنه، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنعام: 68].
الثالث: الخروج من أرض غلب عليها الحرام: فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم.
الرابع: الفرار من الأذية في البدن، وذلك فضل من الله أرخص فيه، فإذا خشي على نفسه فقد أذن الله له في الخروج والفرار ليخلصها من ذلك المحذور.
الخامس: خوف المرض في البلاد الوخمة والخروج منها إلى الأرض النزهة، وقد أذن صلى الله عليه وسلم للرعاة حين استوخموا المدينةَ أن يخرجوا إلى المسرح، فيكونوا فيه حتى يصحوا.
السادس: الفرار خوف الأذية في المال: فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه، والأهل مثله وأوكد.
2- وأما قسم الطلب: فينقسم إلى قسمين: طلب دين وطلب دنيا، فأما طلب الدين فيتعدد بتعدد أنواعه إلى تسعة أقسام:
1- سفر العبرة: قال تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ [محمد: 10]، وهو كثير.
2- سفر الحج.
3- سفر الجهاد، وله أحكامه.
4- سفر المعاش، فقد يتعذر على الرجل معاشه مع الإقامة فيخرج في طلبه لا يزيد عليه، من صيد أو احتطاب أو احتشاش، فهو فرض عليه.
5- سفر التجارة والكسب الزائد على القوت، وذلك جائز بفضل الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [البقرة: 198]؛ يعني التجارة، وهي نعمة منَّ الله بها في سفر الحج، فكيف إذا انفردت.
6- في طلب العلم، وهو مشهور.
7- قصد البقاع: قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد))[3].
8- الثغور للرباط بها وتكثير سوادها للذب عنها.
9- زيارة الإخوان في الله[4].
وعلى هذا فإنه يمكن القول بأن الهجرة من أهم الوسائل العملية لنشر الدعوة وصيانتها وتأمينها؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما اشتد به وبأصحابه الأذى والحصار، أذن الله تعالى له ولأصحابه بالهجرة، وكانت الهجرة إلى الحبشة، وكانت محاولة الهجرة إلى الطائف، إلى أن هيَّأ الله تعالى له أنصارًا بايعوه على الولاء (النصرة)، فخرج إليها، وقد شاء الله تعالى أن تكون ثمرة الدعوة في أرض غير مكة؛ ليتعلَّم المسلمون عامة والدعاة خاصة ما يلي:
1- على الداعي أن يبذل جهده في الدعوة إلى الله وأن يتحمل مشاق الطريق، وأن يؤدي ما عليه قدر طاقته، أما النتائج، فهي بيد الله عز وجل.
2- على الداعي أن يبحث عن منطلق آمِن للدعوة، ولا مانع أن يتحالف مع مَن يقبل نصرته وحمايته من أفراد، أو أهل بلد، أو سلطة، أو دولة.
3- على الداعي أن يبدأ دعوته بين أهله وعشيرته وبيئته، فإذا استجابوا كانوا سندًا له في دعوته، وإن أبَوا فعليه أن يترك إلى أرض أخرى قريبة أو بعيدة، لكنه لا يتوقف عن الدعوة مهما كان الثمن.
4- على الدعاة خاصة، والمسلمين عامة، أن يعلموا أن دينهم وعقيدتهم أغلى من المال والوطن، بل أغلى من الحياة، فالصحابة رضي الله عنهم تركوا ديارهم وعشيرتهم وأموالهم وضحوا بذلك من أجل دينهم وعقيدتهم، فلما فعلوا ذلك عادوا إلى تلك الديار، فاتحين منتصرين.
5- على قدر ما تكون التضحية، تكون النتائج والثمار، فإذا كان الدين - عندنا - في مقدمة الاهتمامات والأولويات، وإذا كان يمثل قضية محورية في حياتنا تشغل بالنا وعقولنا، وتحملنا في سبيله المشاق والصعاب، ومع ذلك الإخلاص لله والتجرد من الهوى - لكافأنا الله تعالى ومنَّ علينا بالنصر والعزة والتمكين، كما منَّ على الصحابة رضي الله عنهم، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [الفتح: 18، 19].
[1] مختار الصحاح.
[2] أساس البلاغة.
[3] فتح الباري، كتاب التطوع، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، ج3، ص 49.
[4] تفسير القرطبي، ج3، ص 1919.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم