اقتباس
وأخْذ الزينة ليس مقصورًا فقط على إتيان المساجد، بل إن الإسلام يحث ويحض ويدفع أتباعه أن يكونوا شامة بين الناس، يُعرفون -بعد إيمانهم- بسمتهم ونظافتهم وتزينهم وتجملهم في جميع أحوالهم، فيروي جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- فيقول: أتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرأى رجلًا شعثًا قد تفرق شعره فقال: "أما كان يجد هذا ما يسكن به شعره...
سأل رجلٌ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إني ليعجبني أن يكون ثوبي غسيلًا، ورأسي دهينًا، وشراك نعلي جديدًا، وذكر أشياء، حتى ذكر علاقة سوطه، أفمن الكبر ذاك يا رسول الله؟ فأجابه -صلى الله عليه وسلم-: "لا، ذاك الجمال، إن الله جميل يحب الجمال، ولكن الكبر من سفه الحق، وازدرى الناس"(رواه مسلم وأحمد واللفظ له).
بل لقد أمر الله -عز وجل- بالتزين في كتابه الكريم أمرًا مباشرًا، فقال -عز من قائل-: (يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)[الأعراف: 31]، فإن الزينة والتجمل مطلوبة من المسلم في كل شئونه الظاهرة والباطنة، لكن يشتد استحبابها وندبها عند الذهاب إلى المساجد، بل قد يكون ذلك واجبًا محتمًا إذا كان بمعنى ستر العورة؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، فتقول: من يعيرني تطوافًا؟ تجعله على فرجها، وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله *** فما بدا منه فلا أحله
فنزلت هذه الآية: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)[الأعراف: 31](رواه مسلم).
ومع هذا تظل كلمة: "زينتكم" مشعرة بأكثر من مجرد ستر العورة؛ فهناك كلمات وتعبيرات عديدة تفيد ستر العورة وحدها، فلو شاء الله -عز وجل- لقال: "واروا سوآتكم" كما قالها -سبحانه- قبلها بآيات قليلة: (يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ)[الأعراف: 26]، لكن لما قال الجليل -سبحانه وتعالى-: "زينتكم" أشعر أن المراد أكثر من مجرد ستر العورة؛ بل التزين والتجمل في سترها، وهو ما نقله النسفي قائلًا: "(زِينَتَكُمْ): لباس زينتكم، (عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ): كلما صليتم، وقيل: الزينة المشط والطيب، والسُنة: أن يأخذ الرجل أحسن هيآته للصلاة؛ لأن الصلاة مناجاة الرب، فيستحب لها التزين والتعطر كما يجب التستر والتطهر".
ويؤيد ذلك أيضًا حال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأسوة الحسنة؛ فعن عن عبد الله بن سلام، أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول على المنبر في يوم الجمعة: "ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة، سوى ثوب مهنته"(رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، وهذا قدر زائد على مجرد ستر العورة.
***
وأخْذ الزينة ليس مقصورًا فقط على إتيان المساجد، بل إن الإسلام يحث ويحض ويدفع أتباعه أن يكونوا شامة بين الناس، يُعرفون -بعد إيمانهم- بسمتهم ونظافتهم وتزينهم وتجملهم في جميع أحوالهم، فيروي جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- فيقول: أتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرأى رجلًا شعثًا قد تفرق شعره فقال: "أما كان يجد هذا ما يسكن به شعره"، ورأى رجلًا آخر وعليه ثياب وسخة، فقال: "أما كان هذا يجد ماءً يغسل به ثوبه"(رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وجعلها -صلى الله عليه وسلم- قاعدة عامة فأمر قائلًا: "من كان له شعر فليكرمه"(رواه أبو داود، وصححه الألباني)، بل لقد قدَّم لهم -صلى الله عليه وسلم- من نفسه القدوة العملية المرئية الملموسة؛ فعن البراء قال: "ما رأيت أجمل من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مترجلًا في حلة حمراء"(رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
***
ومع أن الزينة مطلوبة، لكن لكل شيء ضوابط وشروطًا، ومن ضوابط التزين والتجمل في ديننا ما يلي:
أولًا: عدم الإسراف في التزين ولا الخيلاء بها: فتمام الآية السابقة يقول: (يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف: 31]، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا ما لم يخالطه إسراف، أو مخيلة"(رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني).
أما العجب والخيلاء فهما يهلكان صاحبهما في الدنيا قبل الآخرة حقيقة لا مجازًا، وهذا نموذج حي من أرض الواقع يرويه أبو هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "بينما رجل يمشي في حلة، تعجبه نفسه، مرجل جمته، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة"(متفق عليه).
وثانيًا: ألا يتشبه بالكفار والفساق: فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علي ثوبين معصفرين، فقال: "إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها"(رواه مسلم).
وثالثًا: أن يكون موافقًا للسنة؛ فلا يخالفها: فمثلًا يأمرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "إزرة المسلم إلى نصف الساق، ولا حرج -أو لا جناح- فيما بينه وبين الكعبين، ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، من جر إزاره بطرا لم ينظر الله إليه"(رواه أبو داود، وصححه الألباني).
ولا يلبس ذهبًا أو حريرًا، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أخذ حريرًا فجعله في يمينه، وأخذ ذهبًا فجعله في شماله" ثم قال: "إن هذين حرام على ذكور أمتي"(رواه النسائي، وصححه الألباني).
ورابعًا: التجمل بما كان يتجمل به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وترك التزين بما حذر منه، فلا تزين بحلق اللحى بل بإعفائها، ويكون التزين كذلك بحف الشوارب لا بتركها تنزل على الشفة، فقد أمر -صلى الله عليه وسلم- قائلًا: "خالفوا المشركين: وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب"(متفق عليه)، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى خالفوا المجوس"(رواه مسلم).
***
وفي الجملة، فإن من التزين الذي يحبه الإسلام: الالتزام بخصال الفطرة، فعن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء"، قال زكريا: قال مصعب: "ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة"، زاد قتيبة، قال وكيع: "انتقاص الماء: يعني الاستنجاء"(رواه مسلم).
والآن نقر: أننا ما فعلنا إلا أن فتحنا الباب لخطبائنا ليستهلوا الأمر من بدايته، ويبينوا أصله وغايته، وهاك بعض خطبهم:
التعليقات