عناصر الخطبة
1/دعوة لزيارة الديوان الملكي 2/دعوة يومية لزيارة ديوان ملك الملوك 3/تعظيم بيوت الله تعالى 4/فضائل المساجد وإكرام عمارها 5/ من الأمور المزعجة في المساجد 6/وجوب الحرص على نظافة المساجد ونظامها.اقتباس
هَل إذا دَخَلَ أَحدُنا المَسجدَ يَتَواضعُ للهِ -تَعالى-؟ لأنَّه في بَيتِ مَلكِ المُلوكِ، هل يستحي من المَلائكةِ الكِّرامِ؟ هَل الجَوارحُ تَخضَعُ؟ هَل القُلوبُ تَخشَعُ؟ هَلْ نَستشعِرُ أنَّنا في بَيتِ العَظيمِ العَزيزِ، وأنَّه لا يَنبغي لأَحدٍ فِيهِ أَن يَستَكبرَ عَلى أحدٍ، ولا يَنبغي لأَحدٍ أَن يَرى نَفسَه أَفضَلَ من أَحدٍ...
الخطبةُ الأولَى:
الحمدُ للهِ كَتَبَ السَّعادةَ لِمَن حَرِصَ على دعوتِه وطاعتِه، وَجَعَلَ العِزَّة لِمَن خَضَعَ لسلطانِه وعَظَمَتِهِ، نَشهدُ ألَّا إله إلَّا الله ُوحده لا شريكَ له، في ألوهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَنَشهدُ أنَّ نبينا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، خَيرُ مَن دعا إلى ربِّه وأَجَابَ، صَلواتُ اللهِ وسلامُهُ وَبَرَكَاتُهُ عليه وعلى جميعِ الآلِ والأصحابِ، ومن تبعهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يومِ المآبِ، (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الأَلْبَابِ)[الزمر: 18].
أما بعدُ: تخيَّلْ أنَّكَ تَلَقيتَ دَعوةً من الدِّيوانِ المَلكيِّ لمقَابلةِ المَلكِ، فَمَا هُو شُعورُكَ؟ وَكَيفَ هي الأيامُ بل السَّاعاتُ التي ستقضيها في انتظارِ الموعدِ؟ وكيفَ هِيَ الاستعداداتُ ليومِ اللِّقاءِ؟ كَأنِّي بِكَ قَد أَخبَرتَ كُلَّ مَنْ تَعرِفُ وَمَن لا تَعرِفُ، وأَخبرني عَن نَظافتِكَ، وَأَنَاقتِكَ، وَمَلابسِكَ، وَرِيحِ طِيبِكَ، وَأَنتَ في طريقِكَ إلى الدِّيوانِ.
تَأَتي إلى الدِّيوانِ المَلكيِّ، وإذا المَكانُ مَليءٌ بِالحَرَسِ وَمُوظفي الاستقبالِ، فَتَجلِسُ في قَاعةِ التَّشرِيفاتِ في انتظارِ الإذنِ بالدُّخولِ، وإذا النَّاسُ كَأنَّ عَلى رُؤوسِهم الطَّيرَ، الأَجسادُ خَاشعةٌ، والقُلوبُ وَاجفةٌ، الحَركةُ ثَقيلةٌ، والكَلِماتُ جَميلةٌ، فالصوتُ أصبحَ هَمساً، والضَّحكُ صَارَ بَسماً، وإذا بالبابِ يُفتحُ، ويأذنُ مسؤولُ المراسمِ الملكيةِ بالدُّخولِ، فلا تَستطيعُ المَشاعرُ أن تَتخيَّلَ سعيدَ الأوقاتِ، ولا اللسانُ أن يصفَ تلكَ اللحظاتِ، وقد تكونُ تلكَ الزيارةُ هي الأولى والأخيرةُ في حياتِكَ، فكيفَ تَستثمرُها؟
والآنَ أَخبروني عن الدَّعوةِ التي تُوجَّهُ لَنَا كلَّ يومٍ خَمسَ مَراتٍ، لِزيَارةِ دِيوانِ مَلكِ المُلوكِ، فَيُنَادي مُنادي الدِّيوانِ: حَيَّ عَلى الصَّلاةِ، حَيَّ عَلى الفَلاحِ، فَمَا هِيَ مَشاعرُكَ؟ ومَا هُوَ استعدادُكَ؟ أَخبرني عَن أناقتِكَ وملابسِكَ؟ وكَيفَ هِيَ سِرعةُ استجابتِكَ؟
هَلْ تَتَذَكَّرُ وَأَنتَ تَستَعِّدُ لِلذَّهابِ لِذَلِكَ المَوعِدِ؛ (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)[الأعراف: 31]، فَتلبَسَ جَميلَ الثِّيَابِ، لِلوُقُوفِ أَمَامَ رَبِّ الأَربَابِ، يَقُولُ ابنُ تَيميةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: "كَانَ لِبَعضِ السَّلَفِ حُلَّةٌ بِمَبلَغٍ عَظَيمٍ مِنَ المَالِ، وَكَانَ يَلبَسُها وَقتَ الصَّلاةِ، وَيَقولُ: رَبي أَحقُّ مَن تَجمَّلتُ لَهُ في صَلاتي".
ولَكِنْ لِلأسَفِ هُنَاكَ مَن يَأتي إلى المَسجِدِ بِمَلابسِ النَّومِ، أَو بَدلَةِ رِيَاضةٍ أَو مَا يَجلِبُ اللَّومَ، ولَو دَعَاهُ بَعَدَ الصَّلاةِ الجَارُ أو الإمَامُ، لاعتَذَرَ بِأَنَّ مَلابِسَهُ لا تَليقُ بِالمَقَامِ، فَإلى مَتى وَنحنُ نَرى مِثَلَ هَذا التَّهَاونِ في بُيوتِ اللهِ -تَعالى-، وإذا كَانَ قَد وُضِعَ قَانونٌ للذَّوقِ العَامِ في الأمَاكنِ العَامَّةِ، فَإقَامَتِهِ في المَساجدِ مِن الأُمورِ المَطلُوبةِ والهَامَّةِ.
أَخبروني عَن أَحوالِنا في تَعظيمِ بُيوتِ اللهِ -تَعَالى-، فَتَعظيمُ المَساجدِ مِن تَعظيمِ شَعائرِ اللهِ، (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحج: 32]، هَل إذا دَخَلَ أَحدُنا المَسجدَ يَتَواضعُ للهِ -تَعالى-؟ لأنَّه في بَيتِ مَلكِ المُلوكِ، هل يستحي من المَلائكةِ الكِّرامِ؟ هَل الجَوارحُ تَخضَعُ؟ هَل القُلوبُ تَخشَعُ؟ هَلْ نَستشعِرُ أنَّنا في بَيتِ العَظيمِ العَزيزِ، وأنَّه لا يَنبغي لأَحدٍ فِيهِ أَن يَستَكبرَ عَلى أحدٍ، ولا يَنبغي لأَحدٍ أَن يَرى نَفسَه أَفضَلَ من أَحدٍ، بَلْ الكُلُّ عَبيدٌ مُتسَاوونَ في هذا المَكانِ، جَاءوا يَرجونَ ما عِندَ اللهِ من الرَّحمةِ والإحسانِ، فَهَل تَرى السَّكينةَ والخُضوعَ للهِ القويِّ الرَّحمانِ؟
المساجدُ فيها يُعبَدُ اللهِ ويُوحَّدُ، وفيها يُعظَّمُ اللهُ ويُمجَّدُ، وفيه يُركَعُ للهِ ويُسجَدُ، بل هي أحبُّ البِقاعِ إلى الواحدِ الأحدِ، كما قالَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا"؛ في المَسَاجدُ تَتنزَّلُ فيها السكينةُ والرَّحماتُ، وتُنالُ فيها من الملائكةِ أعظمُ الدَّعواتِ، كما جاءَ في الحديثِ: "الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، ولاَ يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا دَامَتِ الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ، لاَ يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ الصَّلاَةُ".
في المساجدِ تُغفرُ العظائمُ والخطيئاتُ، وتُرفعُ الأجورُ والدَّرجاتُ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلمَ-: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ".
هي البيوتُ التي أمرَ اللهُ -تعالى- ببنائها للذِّكرِ والتَّسبيحِ والقُرآنِ، يُصلّي فيها رِجالٌ قد عَمَرَ اللهُ قلوبَهم بالإيمانِ، ويخافونَ يوماً تتطايرُ فيهِ الكُتبُ ويُوضعُ الميزانُ، (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)[النور: 36- 37]. قد عَلَّقوا قلوبَهم في مَساجدِ الرَّحمنِ، ينتظرونَ اللَّحظةَ التي يَسمعونَ فيها الأذانَ، فيرجعونَ إلى المسجدِ لِتلتقيَ القُلوبُ بالأبدانِ، كَمَا قَالَ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسلمَ-: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ..."، وذكر منهم: "وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في الْمَسَاجِدِ".
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ لا خيرَ إلَّا مِنه، ولا فَضلَ إلَّا من لَدُنه، نشهد ألَّا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، سَمِيعٌ لِرَاجِيهِ، قَريبٌ مِمَّن يُنَاجِيه، وَنَشهَدُ أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبدُ الله ورسولُه، أتمُّ البرية خيرًا وفضلاً، وأَعلاهم منصِبًا وأجرًا، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آلِه وأصحابه، ومن اهتدى بِهديهم صلاةً وسلاماً تَترى.
أما بعد: أَيُّها الأحبَّةُ، مِنَ الأمورِ المُزعِجَةِ فِي المَسَاجدِ لأَهلِ الصَّلاةِ: تِلكَ الرَّوائحُ الكَريهةُ التي تَنبَعِثُ مِنَ الثِّيابِ والأَفواهِ، ثُومٌ وبَصلٌ وعَرَقٌ ودُخَانٌ، فَيَنشَغِلَ القَلبُ عَنِ الخُشوعِ والاطمِئنانِ، وَقَد قَالَ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا، فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا، وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الْإِنْسُ".
فلنحذرْ -عبادَ اللهِ- من إيذاءِ ضيوفِ اللهِ؛ فعَنْ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ -تعالى- عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، إِلا كَانَ زَائِرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَحَقٌّ عَلَى الْمَزُورِ أَنْ يُكْرِمَ زَائِرَهُ"؛ فتكفَّلَ اللهُ -تعالى- لأهلِ المساجدِ بالإكرامِ، فكيفَ يُؤذى ضيوفُ ذِي الجَلالِ والإكرامِ.
وحافظوا -يا عُمَّارَ المساجدِ- على نِظامِها ونظافتِه؛ فنظافةُ المسجدِ ليستْ مهمةَ عاملِ النَّظافةِ فقط، بل مهمةُ كلِّ مؤمنٍ يرغبُ في الأجرِ من اللهِ -تعالى-، كما قالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلمَ-: "عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي، حَتَّى الْقَذَاةِ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ الْمَسْجِدِ".
واحذروا من الإسرافِ والعبثِ بالممتلكاتِ الوقفيةِ، وأعينوا المؤذنينَ والأئمةَ على ما تحمَّلوا من المسئوليةِ، وتجاوزوا عن الهفواتِ والأخطاءِ؛ فإن الكمالَ أبى أن يكونَ إلا لربِّ السماءِ.
فاستووا في صفوفِكم، ولا تختلفوا فتَختلفَ قُلوبُكم، وأَصلحوا ذَاتَ بَينِكم، وكُونوا عِبادَ اللهِ إخواناً، فَمَا بُنيتْ المساجدُ إلا للعبادةِ والجماعةِ، وما قُصدتْ إلا للاجتماعِ على المحبةِ والطَّاعةِ.
اللهمَّ اجعلنا إخوةً متحابينَ، وعلى الخيرِ متعاونينَ، اللهم اجعلنا مُقيمي الصلاةِ ومن ذرياتِنا، ربنا وتقبل دعاءً (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).
اللهم ثبتنا على دينِك وصراطِك المستقيمِ، اللهم آمنا في أوطانِنا، وأصلح أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، اللهم خذ بنواصيهم للبرِ والتقوى ومن العملِ ما تَرضى، اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ في كُلِّ مَكَانٍ، وانصر من نصرَ الدينَ يا ربَّ العالمينَ.
اللهم اغفر للمسلمينَ والمسلماتِ، والمؤمنينَ والمؤمناتِ، وألِّف بين قلوبِهم، وأصلِح ذاتَ بينهم، واهدِهم سُبُلَ السلامِ، وجنِّبهم الفواحِشَ والفتنَ.
اللهم جنِّبنا الفتنَ، اللهم أعِذنا من مُضِلاَّتِ الفتنِ ما ظهرَ منها وما بَطنَ، عن بلدِنا وسائرِ بلادِ المسلمينَ يا ربَّ العالمينَ.
سبحانَ ربِّك ربِّ العزةِ عما يَصفونَ، وسَلامٌ على المرسلينَ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم