اقتباس
فسعدًا لمن شمر عن سواعد الجد، وطلَّق الكسل والتواني، ونوى حسن الصيام والقيام، وعزم على تلاوة القرآن وعلى صلة الأرحام، وتاب من الخطايا والذنوب، وهتف من أعماق قلبه: "اللهم اجعله خير رمضان مر عليَّ طوال عمري".
أشرقت بالنور قلوبنا، وفاضت بالفرحة صدرونا، وتغرغرت بالدموع عيوننا لما قالوا: "أهل هلال رمضان"، لكَم كنا نشتاق إليك يا رمضان، شهورًا طوالًا وكلما ذُكر اسمك تهللت أساريرنا وتاقت إليك أرواحنا وحنت إليك أفئدتنا، حبيب جاء على حاجة.
وما ذلك منا ببدع ولا بجديد؛ فإن معلى بن الفضل يقول عن الصحابة -رضي الله عنهم-: "كانوا يدعون الله -تعالى- ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ويدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم"، ويقول يحيى بن أبي كثير عنهم أيضًا: "كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلًا"( لطائف المعارف، لابن رجب)، فكانت قلوبهم طوال أعمارهم متعلقة برمضان.
بل هذا قدوة الأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- يفرح برمضان ويبشر به أصحابه قائلًا: "قد جاءكم رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم"(رواه أحمد، وصححه شعيب الأرنؤوط).
وبداية من أول ليلة في رمضان تحدث أحداث خاصة، وتقع فتوحات ما بعدها فتوحات، واستمع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتأمل ما يحدث فيها: "إذا كانت أول ليلة من رمضان، صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة"(رواه ابن ماجه).
وأعظم لياليه على الإطلاق، بل أعظم ليالي العام كله بلا منازع هي ليلة القدر، التي يقول الجليل -سبحانه وتعالى- عنها: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)[القدر:1-3]، وقد نسب الله -تعالى- رمضان كله إلى هذه الليلة قائلًا: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)[البقرة:185].
وفي ليالي رمضان يسن قيام الليل، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه"(متفق عليه).
***
هذا كله عن ليل رمضان، فماذا عن نهاره؟ نقول: في نهاره الصوم، وما أدراك ما الصوم! هو الطريق إلى التقوى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: 183].
والصوم غفران للذنوب، فعن أبي هريرة أيضًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"(متفق عليه).
والصوم وقاية من النار، فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الصيام جنة، وحصن حصين من النار"(رواه أحمد)، وكل يوم تصومه يبعدك عن النار مسيرة سبعين سنة، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله، إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا"(مسلم).
وأجر الصوم لا يحد حد ولا يحيط بعلمه بشر، يقول الله -عز وجل- في الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به"(متفق عليه).
وللصائم فرحتان، ففي الحديث القدسي أيضًا: "وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"(متفق عليه).
وباب مخصص للصائمين في الجنة، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجنة بابًا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل معهم أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيدخلون منه، فإذا دخل آخرهم، أغلق فلم يدخل منه أحد"(متفق عليه).
فهو شهر مبارك الليل ومبارك النهار.
***
فسعدًا لمن شمر عن سواعد الجد، وطلَّق الكسل والتواني، ونوى حسن الصيام والقيام، وعزم على تلاوة القرآن وعلى صلة الأرحام، وتاب من الخطايا والذنوب، وهتف من أعماق قلبه: "اللهم اجعله خير رمضان مر عليَّ طوال عمري".
سعدًا لمن صنع في رمضان كما كان يصنع أبو مسلم الخولاني؛ فقد كان يعلق سوطًا في مسجد بيته، فإذا أحس بالكسل أو الفتور تناول سوطه وضرب به ساقه وهو يقول: "أيظن أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يستأثروا به دوننا! كلا والله لنزاحمهم عليه زحامًا، حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالًا"(الإحياء).
وليستعن باغي الخير على تفريغ قلبه لعبادة ربه في رمضان بقول الكبير الجليل -سبحانه وتعالى-: "يا ابن آدم تفرغ لعبادتي، أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإن لم تفعل، ملأت صدرك شغلًا، ولم أسد فقرك"(رواه ابن ماجه).
***
وتعسًا لمن عقد العزم على التضييع والتفريط، بل نقول كما قالها جبريل -عليه السلام-: "أبعده الله"؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صعد المنبر، فقال: "آمين، آمين، آمين"، قيل: يا رسول الله، إنك حين صعدت المنبر قلت: آمين، آمين، آمين، قال: "إن جبريل أتاني، فقال: من أدرك شهر رمضان ولم يغفر له فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين..."(ابن حبان).
وقد جمعنا ها هنا طرفًا من خطب خطبائنا الفرحين برمضان، قد جاءوا يهنئونكم، ويزفون إليكم البشرى بقدوم الشهر الفضيل، جعله الله خير شهر مرَّ على المسلمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم