اقتباس
وفي عصرنا الحاضر يوجد أيضًا الكثير من الأماكن التي تعاني من المجاعات إما لأسباب اقتصادية وبيئية ومناخية، وإما لتجبر الظالمين وظلم الباغين... فمن النوع الأول نجد الصومال تتناوب عليها المجاعات والأوبئة والهلكات، ومن النوع الثاني نجد ضحايًا الحوثيين في اليمن وقد قاربوا على الهلاك جوعًا وعطشًا... ونجد...
الكون كون الله، والرزق رزق الله، والرزاق هو الله، وهو المتكفل بالرزق وحده -سبحانه-، وما طلب منا من أجل أن يرزقنا إلا سعيًا لطلب الرزق على قدر الطاقة، وعبادة وتقى بهما توسعة الرزق ودوامه، فهما إذن شرطان: أخذ بأسباب وتقوى لله، قال الله -عز وجل-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)[الذاريات: 56-58]. والله -عز وجل- لم يتكفل برزق الجن والإنس وحدهما، بل تكفل -سبحانه وتعالى- برزق كل دابة تدب على الأرض من إنس وجن وحيوانات وطيور وكائنات تُرى بالعين المجردة أو لا تُرى إلا بالمجهر أو حتى لا نعلم شيئًا عن وجودها، قال -عز من قائل-: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[هود: 6].
ومهما بلغ ضعف المخلوق عن الأخذ بأسباب الرزق، أو انقطاع السبل به، ومهما بلغ عجزه مداه، فإن الله -عز وجل- رازقه على عجزه وضعفه، قال -تعالى-: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[العنكبوت: 60]، وفي سبب نزول هذه الآية قال المفسرون: "أن النبي -صلى الله عليه وسلـم- قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة وقد آذاهم المشركون: هاجروا إلى المدينة، فقالوا: كيف نخرج إلى المدينة وليس لنا بها دار ولا مال فمن يطعمنا بها ويسقينا؟! فأنزل الله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) أي لا ترفع رزقها معها لضعفها ولا تدخر شيئا لغد مثل البهائم والطير"(تفسير الخازن)، "وقد ذكروا أن الغراب إذا فقس عن فراخه البيض، خرجوا وهم بيض فإذا رآهم أبواهم كذلك، نفرا عنهم أيامًا حتى يسود الريش، فيظل الفرخ فاتحًا فاه يتفقد أبويه، فيقيض الله له طيرًا صغارًا كالبرغش فيغشاه فيتقوت منه تلك الأيام حتى يسود ريشه، والأبوان يتفقدانه كل وقت، فكلما رأوه أبيض الريش نفرا عنه، فإذا رأوه قد اسود ريشه عطفا عليه بالحضانة والرزق"(تفسير ابن كثير).
لكن قد اقتضت حكمة الله -عز وجل- أن يبتلي بعض الناس بتضييق الرزق عليهم حينًا، إما امتحانًا لهم واختبارًا لرفع درجاتهم، وإما عقوبة لهم على ذنوب قارفوها وتقوى هجروها، فإن الله -عز وجل- يتجاوز عن الشرط الأول للرزق وهو الأخذ بالأسباب؛ وذلك عند العجز والضعف والعذر، أما من فرَّط في الشرط الثاني وهو التقوى والطاعة والعبادة، فإنه الله معاقبه كما عاقب تلك القرية التي ضرب بها المثل في القرآن: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النحل: 112].
نعم: (لباس الجوع)؛ تلك هي المجاعة والفاقة بعد الرزق الرغد الذي يأتي من كل مكان، والسبب هو العصيان واستخدام نعم الله فيما يغضب الله، وصدق القرآن: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)[الأنفال: 53]، "يخبر -تعالى- عن تمام عدله وقسطه في حكمه، بأنه -تعالى- لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه"(تفسير ابن كثير)، وقد روي عن ثوبان -بسند ضعيف- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه"(النسائي في الكبرى).
فدعونا الآن نقرر في وضوح أن من الأسباب الخطيرة للمجاعة معصية الله -عز وجل-، فعن عبد الله بن عمر قال: أقبل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم"(ابن ماجه).
فكل ذنب من الذنوب يقارنه بلاء من البلايا ومصيبة من المصائب، وما يلائم كلامنا الآن هو أن نقصان المكيال وتطفيف الميزان سبب في: "الأخذ بالسنين" أي: المجاعات والقحط، وسبب -كذلك- في: "شدة المئونة" وهي صعوبة المعيشة وارتفاع الأسعار وفساد السلع... وأن منع زكاة المال سبب في "منع القطر من السماء" وهو المطر الذي هو أصل الحياة، ومن دونه يكون القحط والمجاعات. ومن الأسباب الخطيرة للمجاعة: استخدام النعمة في معصية الله، وهذا هو كفران النعمة، فمن استخدم نعمة الله في معصية الله فقد كفرها وما شكرها، وقد قال الله -عز وجل-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم: 7].
ويذكر لنا التاريخ أنه قد وقعت على وجه الأرض العديد من المجاعات، ولعل أشهرها هو عام الرمادة المشهور في كتب الحديث والسيرة والتاريخ... وفي عصرنا الحاضر يوجد أيضًا الكثير من الأماكن التي تعاني من المجاعات إما لأسباب اقتصادية وبيئية ومناخية، وإما لتجبر الظالمين واعتداء المعتدين وظلم الباغين... فمن النوع الأول نجد الصومال تتناوب عليها المجاعات والأوبئة والهلكات، ومن النوع الثاني نجد ضحايًا الحوثيين في اليمن وقد قاربوا على الهلاك جوعًا وعطشًا ومرضًا وضعفًا، ونجد في سوريا ضحايا إخوانهم من الروافض يموتون جوعًا وبردًا وعُريًا وقذفًا بالمتفجرات... فقد صارت المجاعات في عصرنا نوعين: مجاعات طبيعية، ومجاعات مصنَّعة يريد الظالمون لها أن تكون، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
ويبقى السؤال الأهم: كيف عالج الإسلام مشكلة الجوع والمجاعات؟ والإجابة في كلمات ثلاث: توبة، ومواساة، وأخذ بالأسباب. فأما التوبة: فيقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفِعَ بلاء إلا بتوبة"(الداء والدواء لابن القيم)، وفي القرآن على لسان نبي الله هود -عليه السلام-: (وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ)[هود: 52]، وعن الاستغفار يقول القرآن: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)[نوح: 10-12]، فالتوبة والاستغفار ترفعان البلاء وتوسعان الأرزاق.
وأما المواساة: فهو خلق إسلامي أصيل، وهو أصل التكافل الاجتماعي الذي يعدُّونه صناعة شرقية أو غربية، يحكي أبو موسى الأشعري كيف أثنى الحبيب النبي -صلى الله عليه وسلـم- على قومه لأنهم كانوا يتخلقون بخلق المواساة قائلًا: "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم"(متفق عليه).
وهو ما طبقه رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- عمليًا بعد أن أثنى على فاعليه، فعن المنذر بن جرير، عن أبيه قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالًا فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)[النساء: 1] إلى آخر الآية: (إن الله كان عليكم رقيبا)[النساء: 1]، والآية التي في الحشر: (اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ)[الحشر: 18]، "تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره -حتى قال:- ولو بشق تمرة"، قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتهلل،- كأنه مذهبة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء"(مسلم). وطبقه كذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنـه- في عام مجاعة، فيروي ابنه عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنـه- قال عام الرمادة -وكانت سنة شديدة ملمة، بعدما اجتهد عمر في إمداد الأعراب بالإبل والقمح والزيت من الأرياف كلها، حتى بلحت الأرياف كلها مما جهدها ذلك- فقام عمر يدعو فقال: "اللهم اجعل رزقهم على رءوس الجبال"، فاستجاب الله له وللمسلمين، فقال حين نزل به الغيث: "الحمد لله، فوالله لو أن الله لم يفرجها ما تركت بأهل بيت من المسلمين لهم سعة إلا أدخلت معهم أعدادهم من الفقراء، فلم يكن اثنان يهلكان من الطعام على ما يقيم واحدًا"(الأدب المفرد).
وأما الأخذ بالأسباب: فهو أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- في الأمور كلها خاصة الرزق، فعن عمر -رضي الله عنـه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- يقول: "لو أنكم توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا"(ابن ماجه) فالطير -مع ضعفها- تغدو وتروح طلبًا لرزقها، فكيف بنا!. ومن أهم تلك الأسباب: الأسباب الشرعية من دعاء واستغاثة بالله، وكذا صلاة الاستسقاء، التي علمنا إياها رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- ثم الخلفاء من بعده، فيروي زيد بن أسلم عن ابن عمر أنه قال: استسقى عمر بن الخطاب عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب، فقال: "اللهم هذا عم نبيك العباس، نتوجه إليك به فاسقنا"، فما برحوا حتى سقاهم الله. (الحاكم).
وعن الجوع والمجاعات، وعن أسبابها، وكيف نتجنبها، وكيف نشكر نعم الله لئلا تزول، وعن فضل إطعام الطعام وسقيا الماء عند الحاجة إليهما، وعن غير ذلك، قد تكلم خطباؤنا، وقد جمعنا بعض خطبهم لتكون زادًا لنا، فإليك ما جمعنا:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم