اقتباس
فإذا شبت الفتاة وتزوجت لم ينقطع هذا الود، بل تنامى وزاد واتخذ صورًا أعظم وأجلى، فها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- يجلس في الفراش بين ابنته وزوجها مقدِّمًا لها ما ينفعهما في الدنيا والآخرة، فعن علي -رضي الله عنه- قال: فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلينا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبت لأقوم، فقال: "على مكانكما"، فقعد بيننا...
من هذا الذي يمشي مطأطأ الرأس يتوارى من الناس من خزي قد أصابه؟! وما هذا الذي يفعل؟! لماذا يحفر هذه الحفرة ويعمقها؟ ومن تلك التي يحملها في يديه؟ يا الله ما هذه الرقة والبراءة؛ إنها فتاة وليدة، لكن يالبشاعة ما يصنع؟! إنه يلقيها في الحفرة ويهيل عليها التراب ويطأ فوقها بقدميه!.. لقد كان هذا هو صنيعهم بالبنات قبل الإسلام: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ)[النحل: 58-59]، (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)[التكوير: 8-9].
وما أنقذها من ذلك المصير القاسي إلا مجيء الإسلام، الذي أعلى من قيمتها، واحترم كيانها، وصانها عن كل ما يؤذي أو يضر أو يريب، وملء قلوب أتباعه حنوًا ورقة ورحمة بهن، وهذه إحداهن ما زالت تذكر كيف كان نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم- يتذكرها ويخصها بالهدية ويُلبِسها بيده ثم يداعبها؛ إنها أم خالد بنت خالد التي تقول: أتي النبي -صلى الله عليه وسلم- بثياب فيها خميصة سوداء صغيرة، فقال: "من ترون أن نكسو هذه؟" فسكت القوم، قال: "ائتوني بأم خالد"، فأتي بها تحمل، فأخذ الخميصة بيده فألبسها، وقال: "أبلي وأخلقي"، وكان فيها علم أخضر أو أصفر، فقال: "يا أم خالد، هذا سناه" وسناه بالحبشية حسن(رواه البخاري).
وها هو -صلى الله عليه وسلم- في عبادته وهو واقف أمام ربه -عز وجل- يصلي بجموع الصحابة لا يرى بأسًا بأن يحمل ابنة ابنته قائمًا وراكعًا، فعن أبي قتادة الأنصاري "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها"(متفق عليه).
وكان -صلى الله عليه وسلم- رفيقًا حتى بالفتيات من غير قريباته، بل ومن غير الأحرار؛ رفيقًا بالجواري والإماء، يوثِّق أنس بن مالك ذلك قائلًا: "إن كانت الأمة من أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت من المدينة، في حاجتها"(رواه ابن ماجه).
وإن كانت هذه الرقة النبوية موفورة للفتيات، فإنه -صلى الله عليه وسلم- لم يحرم منها الفتيان، يروي محمود بن الربيع فيقول: "عقلت من النبي -صلى الله عليه وسلم- مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو"(رواه البخاري).
ويواسي أبا عمير الذي مات طائره الذي يلعب به قائلًا: "يا أبا عمير، ما فعل النغير"(متفق عليه).
***
فإذا شبت الفتاة وتزوجت لم ينقطع هذا الود، بل تنامى وزاد واتخذ صورًا أعظم وأجلى، فها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- يجلس في الفراش بين ابنته وزوجها مقدِّمًا لها ما ينفعهما في الدنيا والآخرة، فعن علي -رضي الله عنه- قال:... فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلينا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبت لأقوم، فقال: "على مكانكما"، فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري، وقال: "ألا أعلمكما خيرًا مما سألتماني، إذا أخذتما مضاجعكما تكبرا أربعًا وثلاثين، وتسبحا ثلاثًا وثلاثين، وتحمدا ثلاثًا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم"(متفق عليه).
وتحكي عائشة أم المؤمنين كيف كان -صلى الله عليه وسلم- يعامل ابنته ويخصها بأسراره، فتقول: "وكانت إذا دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- قام إليها وقبلها، وأجلسها في مجلسه، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل عليها قامت من مجلسها، فقبلته وأجلسته في مجلسها، فلما مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- دخلت فاطمة فأكبت عليه وقبلته ثم رفعت رأسها فبكت، ثم أكبت عليه، ثم رفعت رأسها فضحكت، فقلت: إن كنت لأظن أن هذه من أعقل النساء، فإذا هي من النساء، فلما توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- قلت: أرأيت حين أكبيت على النبي -صلى الله عليه وسلم- فرفعت رأسك فبكيت، ثم أكبيت عليه فرفعت رأسك فضحكت، ما حملك على ذلك؟ قالت: "أخبرني، تعني أنه ميت من وجعه هذا فبكيت، ثم أخبرني أني أسرع أهل بيتي لحوقًا به، فذلك حين ضحكت"(رواه النسائي، وأصله في الصحيحين).
ويرق قلب النبي -صلى الله عليه وسلم- لابنته الأخرى زينب متذكرًا أمها، وهذا ما نقلته عائشة أيضًا حين قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب في فداء أبي العاص بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة أدخلتها بها على أبي العاص، فلما رآها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رق لها رقة شديدة، وقال: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها الذي لها"، فقالوا: نعم(رواه أبو داود)
***
وكما يحتفل الإسلام بها وليدة وفتاة وابنة، فإنها يعلي قيمتها زوجة وأليفة، فها هو نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم- يجب زوجاته ويفي لهن، ولا يستحي أن يصرِّح بحبه إياهن، فعن عائشة قالت: ما غرت على نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا على خديجة وإني لم أدركها، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا ذبح الشاة، فيقول: "أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة"، قالت: فأغضبته يومًا، فقلت: خديجة! فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إني قد رزقت حبها"(رواه مسلم).
ولا يعني هذا أنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يجهر بحبه لعائشة، كلا؛ فقد سأله عمرو بن العاص: أي الناس أحب إليك؟ فأجاب -صلى الله عليه وسلم- بلا مواربة: "عائشة"(متفق عليه).
وتأتي فاطمة ناقلة إلى أبيها -صلى الله عليه وسلم- شكوى أزواجه من عائشة، فيقول لها -صلى الله عليه وسلم-: "أي بنية ألست تحبين ما أحب؟" فقالت: بلى، قال: "فأحبي هذه"(متفق عليه).
***
وللمرأة في الإسلام شخصيتها المعتبرة، وذمتها المالية المستقلة، فيقول -صلى الله عليه وسلم- لأم هانئ حين أجارت ابن هبيرة: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ"(متفق عليه).
ويقر -صلى الله عليه وسلم- امرأة ابن مسعود أن تتصدق عليه وعلى ولده من مالها الخاص، قائلًا لها: "زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم"(متفق عليه).
وإن جعلوا للفتاة يومًا عالميًا يرفعون عنها فيه الظلم، فإن الإسلام قد صنع أضعاف ذلك لها حين كرَّمها بحق، وصانها بصدق، ورفع قدرها حقيقة، وما كانت المرأة أكرم ولا أعز ولا أرفع شأنًا منها في ظل الإسلام، وما كل ما ذكرنا إلا مقدمة وتوطئة للحديث عن مكانتها في الإسلام، والذي قد اضطلع به كثير من خطبائنا، منهم من قدمنا ها هنا خطبهم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم