اقتباس
ويثور ها هنا سؤال في غاية الأهمية يقول: وكيف نقي أنفسنا شر أموالنا؟... وندع الإجابة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي يقول: "من أدى زكاة ماله، فقد ذهب عنه شره"، نعم، زكاة المال، وما أدراك ما زكاة المال! ركن من أركان الإسلام الخمسة...
"فتنٌ كلها الحياة"؛ يتنقل الإنسان فيها من فتنة إلى أخرى، من فتنة فقر إلى فتنة مرض إلى فتنة فقْدِ عزيز... لكن ليست الفتن كلها بالشر؛ بل قد يبتلي اللهُ -تعالى- الناسَ بالخير: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)[الأنبياء: 35]، والفتنة بالخير غالبًا ما تكون أصعب وأخطر من الفتنة بالشر، يقول عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-: ""بلينا بفتنة الضراء فصبرنا، وبلينا بفتنة السراء فلم نصبر"، وقال بعضهم: "فتنة الضراء يصبر عليها البر والفاجر، ولا يصبر على فتنة السراء إلا صِدِّيق"، ولما ابتلي الإمام أحمد بفتنة الضراء صبر ولم يجزع، وقال: "كانت زيادة في إيماني"، فلما ابتلي بفتنة السراء جزع وتمنى الموت صباحًا ومساءً، وخشي أن يكون نقصًا في دينه"(اختيار الأولى، لابن رجب الحنبلي).
ومن أشد تلك الفتن التي تكون بالخير: "فتنة المال"؛ إنه أمر قرره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلًا: "إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال"(رواه الترمذي، وصححه الألباني)، ومن قبله يقول القرآن الكريم: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ)[الأنفال: 28]، ولو أتيت لتستعرض بعض ما قد يفعله المال بصاحبه لطال بك المقام، فمن ذلك أن حب المال يحمل صاحبه على الشح والبخل به، وهما هلاك ودمار، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم"(رواه مسلم)، فهاتان جريمتان سببهما حب المال.
ولقد قرن الله -عز وجل- بين حب المال وبين عدد من الموبقات هو سببها، فقال -سبحانه-: (كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا)[الفجر: 17-20].
وليس بعيدًا عنا ما فعله المال بقارون؛ فقد غره ماله وزرع فيه الكبر والعجب والاعتداد بالنفس حتى قال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)[القصص: 78]، فكانت نهايته المعروفة: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ)[القصص: 81].
ويزيدنا الشيخ أحمد محمد شاكر آفة أخرى سببها المال فيقول: "أهل الجاهلية إنما تورطوا في نكاح حلائل الآباء، لشيء واحد: هو أخذ ما آتاهن الآباء من المال، ولئلا تذهب المرأة بما عندها من مال آبائهم؛... فإن أهل الجاهلية لم يرتكبوا نكاح العمات والخالات والأخوات.. بل استنكروه، فاستنكارهم نكاح حلائل الآباء -وهن بمنزلة أمهاتهن في حياة آبائهن- كان خليقًا أن يكون من فعلهم وعادتهم، ولكن حملهم حب المال على مخالفة ذلك"(ينظر تحقيقه لتفسير الطبري).
***
ويثور ها هنا سؤال في غاية الأهمية يقول: وكيف نقي أنفسنا شر أموالنا؟... وندع الإجابة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي يقول: "من أدى زكاة ماله، فقد ذهب عنه شره"، وفي لفظ: "إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره"(رواه الطبراني والحاكم وصححه، وحسنه الألباني لغيره).
نعم، زكاة المال، وما أدراك ما زكاة المال! ركن من أركان الإسلام الخمسة، ففي الصحيحين: "بني الإسلام على خمسة: على أن يوحد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.."، والزكاة دليل وبرهان على قوة إيمان صاحبها: "والصدقة برهان"(رواه مسلم)، والزكاة طهارة للنفس والروح: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)[التوبة: 103]، والزكاة حق الفقراء في مال الأغنياء: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)[المعارج: 24-25]...
فمن أدى زكاة ماله واتقى الله -تعالى- فيه وتصدق، لم يكن ماله شرًا عليه؛ بل كان: "نعم المال الصالح للمرء الصالح"(رواه البخاري في الأدب، وصححه الألباني).
***
وما جاع فقير إلا بمنع غني، كلمة قالها علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما منع غنى، والله سائلهم عن ذلك"، وهذا كعب بن مالك -رضي الله عنه- يقول: "إذا رأيت المطر قد قحط فاعلم أن الزكاة قد منعت"(رواه البيهقي في الشعب)، وما أتيا بهذا من عند نفسيهما، بل من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي يقول: "ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا"(رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني).
فبسبب مانعي الزكاة يشقى العباد ويُمنع عن الأرض المطر والنماء، ولهذا فإن عقوبتهم مريرة يوم القيامة: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)[التوبة: 34- 35]، فهو يعذب يوم القيامة بماله الذي بخل به على الفقراء والمساكين والمستحقين، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من آتاه الله مالًا، فلم يؤد زكاته، مثل له ماله يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه -يعني بشدقيه- ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك"(رواه البخاري).
ولا يقتصر عذابه على اليوم الآخر فحسب، بل لولي الأمر أن يعاقب مانع الزكاة فيأخذ أكثر منها من ماله قسرًا، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الزكاة: "من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا -عز وجل-، ليس لآل محمد منها شيء"(رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
***
فيا صاحب المال: أخرج زكاتك قبل ألا تستطيع إخراجها، أخرج زكاتك قبل ألَّا تجد من يقبلها منك؛ فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال، فيفيض حتى يُهِمَّ رب المال من يقبله منه صدقة، ويدعى إليه الرجل فيقول: لا أَرَبَ لي فيه"(رواه مسلم)، وفي لفظ له: "حتى يخرج الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحدًا يقبلها منه".
أخرج زكاتك بدلًا من أن تكون كثير المال في الدنيا قليل الصالحات في الآخرة؛ فعن أبي ذر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "هم الأخسرون ورب الكعبة، هم الأخسرون ورب الكعبة"... فقلت: من هم بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال: "الأكثرون أموالًا، إلا من قال هكذا، وهكذا، وهكذا"(متفق عليه).
وتراكم الآن لاحظتم أننا لم نتطرق إلى تعريف الزكاة، ولا إلى أنواعها وأنصبتها، ولا مقادير المخرج فيها، ولا المستحقين لها... والسبب أننا قد نظمنا هذا كله -وأكثر منه- في أربعة محاور كاملة، ودعمناها بالخطب النيرة والكتب الموثوقة والمقالات الرصينة والدراسات المؤصلة إلى جانب العديد من الفيديوهات والصوتيات، وكلها تدور في فلك الزكاة تلك الفريضة المحكمة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم