عناصر الخطبة
1/حكمة الله من تقسيم عباده أغنياء وفقراء 2/الزكاة: أصنافها ونصابها ومصارفها حق لله لا يدخل فيه الاجتهاد 3/بيان مصارف الزكاة الثمانية 4/مسائل متعلقة بمصارف الزكاة 5/الزكاة تبرئة لذمة المعطي وصيانة لكرامة الآخذ 6/ضرورة اختيار الوكيل الثقة الخبير في الزكاة.اقتباس
ومتى أخرج العباد زكاة أموالهم كما ينبغي في الوقت الذي ينبغي حينها ستكون نسبة الفقراء والمساكين شبه معدومة وكرامتهم من التكفف مصونة وكرامتهم من السؤال محفوظة؛ فمن حكمة الله -تعالى- أن جعل نسبة الغنى تستوفي...
الخطبة الأولى:
الحمدلله ...
معاشر المسلمين: اتقو الله -تعالى- واعلموا أن سعادتكم في الدنيا وفلاحكم في الآخرة في تعظيم شرعه وامتثال أمره واجتنابه نهييه والسير على هدى نبيه وخطى رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
عباد الله: إن من حكمة الله -تعالى- أن خلق عباده وقسمهم أغنياء وفقراء معسرين وموسرين ليبلوا بعضهم ببعض؛ قال الله: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا)[الزخرف: 32].
والجميع فيما قسمه الله له وقدره عليه مبتلى؛ فالغني في ماله وما وسع عليه مبتلى في شكره لله على نعمه وحسن تصرفه وقيامه بحق الله فيها، والفقراء في فقرهم وما ضيق عليهم فيه مبتلون على إيمانهم بما قدره عليهم وصبرهم عليه، وهل سيحملهم ما هم عليه من شظف العيش وسوء الحال إلى أكل أموال الآخرين أو أخذها بغير حق، أو جعل كرامتهم ثمنا لحاجتهم أو يكون ذلهم بساطا للأغنياء مقابل معايشهم؟.
أيها الإخوة: إنه لما اقتضت حكمة الله ذلك شرع نظاما ماليا متكاملا يقضي باقتطاع نسبة من مالي الغني لأخيه الفقير من غير إجحاف فيها على الأغنياء كما تؤدي الغرض الشرعي والمجتمعي للفقراء؛ وهذا النظام الاقتصادي من كماليات الدين ومحاسنه؛ حيث تمثل الزكاة الرابط القوي والجسر المتين الذي تربط أبناء المجتمع المسلم غنيه بفقيره، وبرهان يدلل على صدق الأخوة الإسلامية بينهم وقوة الأواصر المجتمعية فيهم.
عباد الله: إن الزكاة فريضة ليس لفرد أو جماعة أو نظام أن يتصرف فيها باجتهاده ولا من تلقاء نفسه؛ لأن المشرع -الحكيم سبحانه- لم يترك لأصحاب الزكاة ولا لغيرهم حرية التصرف فيها؛ بل أوجبها عليهم قدرا معينا وحدد لهم أصنافا بعينها تصرف فيها؛ تقديسا لهذه الشعيرة وصيانة لها وحتى لا تهدر حقوق هؤلاء الأصناف نتيجة اجتهادات خاطئة أو بسبب أخلاق ناشزة؛ فهي أصناف محكمة لا يدخل فيها اجتهاد ولا يقبل فيها رأي؛ قال الله: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[التوبة: 60].
قال ابن كثير عند تفسير هذه الآية؛ أيْ: "حُكْمًا مُقَدَّرًا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وفَرْضِه وقَسْمه. عَلِيمٌ بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ وَبَوَاطِنِهَا وَبِمَصَالِحِ عِبَادِهِ، عليم فِيمَا يَفْعَلُهُ وَيَقُولُهُ وَيَشْرَعُهُ وَيَحْكُمُ بِهِ"(تفسير ابن كثير (4/ 169))
وهذه الأصناف الثمانية -يا عباد الله- جاء بيانها محكما شافيا في الآية الكريمة من سورة التوبة؛ قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[التوبة: 60].
ومن السنة ما جاء في حديث عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- أن رسولَ اللهِ ﷺ لما بَعث مُعاذًا -رضي الله عنه- على اليمنِ، قال: "إنك تَقدُمُ على قومٍ أهلِ كتابٍ، فليكُنْ أولَ ما تدعوهم إليه عبادةُ اللهِ، فإذا عرَفوا اللهَ، فأخبِرْهم: أن اللهَ قد فرَض عليهم خمسَ صلواتٍ في يومِهم وليلتِهم، فإذا فعَلوا، فأخبِرْهم أن اللهَ فرَض عليهم زكاةً من أموالِهم، وتُرَدُّ على فقرائِهم، فإذا أطاعوا بها، فخُذْ منهم، وتَوَقَّ كرائمَ أموالِ الناسِ"(صحيح البخاري ١٤٥٨).
فمتى توفرت -أيها المسلمون- شروط الزكاة في المال ومالكه فقد وجبت فيه الزكاة ووجب صرفها في مصارفها الموضحة في الآية الكريمة؛ ونعني بمصارف الزكاة الجهات التي تصرف لهم الزكاة؛ وسنوضح فيما يلي كل صنف منها:
الفقراء: وهم ذوو الحاجة الذين لا يجدون ما يكفي لسد حاجاتهم الأساسية والضرورية, مما جرت لمثلهم به العادة والعرف؛ فيعطون في الأصل ما يكفيهم عاما كاملا؛ بحكم أن الزكاة تتكرر كل عام.
المساكين: ووصفهم لا يبعد عن وصف الفقراء؛ إلا أنهم أحسن حالا منهم؛ كونهم يملكون شيئا لكنه لا يسد حاجتهم ولا تتم به الكفاية ما جرت به العادة والعرف.
العاملين عليها: وهم كل من يقوم بعمل يتصل بالزكاة؛ جبايتها وتخزينها والقيام عليها وتوزيعها, سواء أسندها إليهم ولي الأمر أو غيره؛ فيعطون أجرة عملهم ذلك حسب ما جرت به العادة أو العرف أو حسب ما تراضيا عليه ولو كانوا أغنياء.
المؤلفة قلوبهم: ويدخل فيه كل من كان في إعطائه ترغيب له في الإسلام أو يحقق مصلحة عائدة للإسلام أو المسلمين أو يدفع بها ضررا عنهم ولولم يسلموا، أو المهتدون للإسلام ممن هم حديثو عهد به؛ لكنهم بحاجة إلى مواساتهم في وضعهم الحالي ولو لغير النفقة.
وفي الرقاب: ويقصد بها دفع الزكاة من أجل عتقها وتخليصها، ومنه سداد الديات، وأيضا إعانة المكاتب على مكاتبته سيدَه لعتقه وتحريره، ودفعها لفكاك الأسير.
والغارمين: وهم كل غارم لحاجته الشخصية أو من يجب عليه نفقته مما لا يستغنى عنها، أو غرم لمصلحة اجتماعية كإصلاح ذات البين؛ بتحمّله الديات أو ثمن المتلفات بقصد الإصلاح بين المتخاصمين.
وفي سبيل الله: قال الشوكاني في تفسيره: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ): "هم الغزاة والمرابطون يعطون من الصدقة ما ينفقون في غزوهم ومرابطتهم وإن كانوا أغنياء ، وهذا قول أكثر العلماء".
ويدخل طلب العلم الشرعي في ذلك؛ فقد أفتى العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- فقال: "طالب العلم المتفرغ لطلب العلم الشرعي، وإن كان قادراً على التكسب يجوز أن يعطى من الزكاة، لأن طلب العلم الشرعي نوع من الجهاد في سبيل الله..".
وابن السبيل: وهو المنقطع عن بلده؛ فإنه يعطى من الزكاة ما يكيفه إلى بلده ولو كان في بلده غنيا؛ كونه في هذه الحالة لا يخرج وصفه عن الفقير والمسكين.
أيها المسلمون: يتعلق بالحديث عن مصارف الزكاة مسائل عديدة: منها دفع الزكاة لغير المسلمين؛ فإنه لا يجوز دفعها إلى ذمي ولا إلى كافر من باب أولى؛ سواء كانوا محاربين أو غير محاربين؛ إلا ما كان بقصد التأليف؛ بخلاف الصدقات فإنه يجوز إعطاء الكافر غير المحارب منها تأليفا له ورجاء في إسلامه.
ولا تعطى الزكاة لمن ثبت نسبهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فآل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحرم عليهم أخذ الزكاة وجعل لهم نصيب الخمس مكانها؛ إلا أن العلماء قالوا إذا لم يكن الخمس موجودا أو لم يعطوا منه وكانوا من أهل الزكاة فيجوز حينها دفع الزكاة لهم ويجوز لهم أخذها، وقد اختار شيخ الإسلام هذا فقال: "يجوز لبني هاشم إذا كانوا مضطرين ولم يأخذوا نصيبهم من الغنائم أن يأخذوا من الزكاة المفروضة لدفع ضرورتهم".
ولا ينبغي -يا عباد الله- تأخير دفع الزكاة لمستحقيها إذا بلغ حولها واستكمل نصابها؛ تحت أي حجة أو مسوغ، وفاعل ذلك مفرط وواقع في الإثم ويخشى عليه أن يموت وحق الله في رقبته دين عليه، وربما ورث مالَه من لا يبرئ ذمته بإخراج حق الله منه وحق الآخرين.
وليس في تقديم الزكاة عن موعدها أيها المسلمون- حرج إذا دعت الحاجة لذلك لعام أو أكثر أو أقل؛ فقد طلب النبي -صلى الله عليه وسلم- من عمه العباس أن يعطيه زكاة عامين ،كما روى ذلك علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: "إنَّا قد أخَذنا زَكاةَ العبَّاسِ عامَ الأوَّلِ للعامِ"(الألباني صحيح الترمذي ٦٧٩ حسن).
وعن استثمار أموال الزكاة فقد سئلت اللجنة الدائمة: عن جمعية خيرية تريد استثمار أموالها. فأجابوا: "إذا كان المال المذكور في السؤال من الزكاة: فالواجب صرفه في مصارفه الشرعية من حين يصل إلى الجمعية، وأما إن كان من غير الزكاة: فلا مانع.."(فتاوى اللجنة الدائمة (9/403 ، 404).
والزكاة تمليك لمستحقيها من الأصناف الثمانية؛ لذا لا يجوز -عباد الله- إسقاطها عن مدين أو
يقضى منها دين ميت؛ لأن المقصود تمليكها الفقير؛ وقضاء الدين لا يحقق هذا المعنى ولأن الحي أولى من الميت في الانتفاع بها.
ومن المخالفات المنتشرة في إخراج الزكاة دفعها لأصول المزكي أبيه وجده وإن علوا وفروعه الابن وابنه وإن نزلوا وكذا زوجته، لأن نفقة هؤلاء تجب عليه شرعا؛ وإعطاؤهم الزكاة هو إسقاط لحقهم في وجوب نفقته عليهم.
ومن ملك نصاب الزكاة لا يعطى من الزكاة؛ والنصاب هو ما زاد على حاجته الأساسية ومقومات حياته الضرورية، كذا لا يعطى من الزكاة لمن حاجته متكفل بها غيره أو من له عائل يعوله.
ويجوز نقل الزكاة من البلد الذي وجبت فيه الزكاة إلى آخر؛ إذا كان هناك ما يدعو لنقلها؛ والخلاصة أنه حيث وجدت هذه الأصناف وجب دفعها لهم سواء أكانوا داخل بلد الزكاة أو خارجها؛ فالمسلمون كنفس واحدة وهم كالبنيان لا تفرق بينهم أجناس ولا ألوان ولا تفرقهم جنسيات ولا أوطان.
أقول ما سمعتم، ولي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروا الله وتوبوا إليه من كل ذنب وخطيئة وعصيان؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدلله المقدَّسِ في ذاته العظيمِ في ملكه الخبيرِ في شرعه القائمِ على خلقه، والصلاة والسلام على خير أنبيائه وأشرف رسله، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن سار على نهجه، وبعد:
معاشر المسلمين: الاستغناء عما في أيدي الناس سواء من صدقاتهم الواجبة أو المستحبة عزة وكرامة وعفة ونزاهة، والعفة أسلم للعبد في دينه وعرضه وأقوى لعلاقته بالله وإخوانه، والإنسان مطالب شرعا أن يقوم على نفسه؛ ولكن من أعطي من هذا المال من غير تشرف له وهو من أهله إن كان زكاة فلا بأس بأخذه؛ فقد روى حكيم بن حزام أنه قال: سأَلتُ النبيَّ -ﷺ- فأعطاني، ثم سأَلتُه فأعطاني، ثم سأَلتُه فأعطاني، ثم قال: "هذا المالُ". ورُبَّما قال سُفيانُ: قال لي: "يا حَكيمُ، إنَّ هذا المالَ خَضِرَةٌ حُلوَةٌ، فمَن أخَذه بطِيبِ نَفسٍ بُورِك له فيه، ومَن أخَذه بإشرافِ نَفسٍ لم يُبارِكْ له فيه، وكان كالذي يأكُلُ ولا يَشبَعُ، واليدُ العُليا خيرٌ منَ اليدِ السُّفلى"(صحيح البخاري ٦٤٤١).
عباد الله: ومتى أخرج العباد زكاة أموالهم كما ينبغي في الوقت الذي ينبغي حينها فإن نسبة الفقراء والمساكين ستكون شبه معدومة وكرامتهم من تكفف الناس مصونة وكرامتهم من السؤال محفوظة؛ فمن حكمة الله -تعالى- أن جعل نسبة الغنى تستوفي نسبة الفقراء وتسد حاجاتهم كما جاء ذلك إشارة في حديث معاذ رضي الله عنه- " فرَض عليهم زكاةً من أموالِهم، وتُرَدُّ على فقرائِهم".
وعلى المسلم المزكي -أيها الأخيار- أن يتحرى في زكاته معرفة مستحقيها، ولا ينبغي له التصرف فيها جزافا سواء في مقدارها أو في صرفها، كما يجب عليه اختيار الثقة الأمين الخبير في توزيعها؛ فإذا لم يجد لها الثقة الأمين البصير؛ فالأصل أن يقوم عليها بنفسه حتى يبرأ أمام الله -تعالى-. نسأل الله غنى لا يطغينا وصحة لا تلهينا وأغننا اللهم برحمتك عمن أغنيته عنا.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم