اقتباس
أنه -صلى الله عليه وسلم- قد خرج من همومه الشخصية إلى هموم دينه ودعوته، قد خرج من هموم دنياه إلى هموم آخرته، قد رأى هموم الدنيا وأحزانها على حقيقتها؛ صغيرة زائلة تافهة... ثم رأى الباقي والخالد والثمين هو أمر دينه ودعوته وآخرته...
يا له من رجل مبتلى، مات له ستة من الأولاد واحدًا تلو الآخر في حياته وأمام عينيه وبين يديه، وماتت زوجته الوفية الحنونة التي كانت له سندًا وحضنًا دافئًا، واضطهده جيرانه وأهل بلده وسبوه وعايروه وآذوه حتى لقد حاولوا مرارًا أن يقتلوه، ثم من مسكنه ومن بلده طردوه، ثم لم يتركوه إذ ذهب عنهم بل تبعوه وهاجموه وبكل وسيلة حاربوه... أتدري من هو؟ إنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمع أنه أشرف الخلق وأكرمهم على الله -تعالى- لم يسلم من مصائب الدنيا وابتلاءاتها.
وممن عانى من كثرة حوادث الدنيا ذلك الشعر الذي يقول:
رماني الدهر بالأرزاء حتى *** فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام *** تكسرت النصال على النصال
فهكذا هو حال الدنيا؛ دار بلاء ومحن، وصدق القائل:
طبعت على كدر وأنت تريدها *** صفوا من الأقذاء والأكدار
ومكلّف الأيام ضدّ طباعها *** متطلِّب في الماء جذوة نار
وإذا رجوت المستحيل فإنما *** تبني الرجاء على شفير هار
فأجارك الله من هَمٍّ أن يحتويك، ومن غم أن يعرف طريقك؛ فإن الهم مقتلة الرجال وقاطعها عن العمل، وسادًّا في وجههم بال الأمل.
والهم يخترم الجسيم نحافة *** ويشيب ناصية الصبي ويهرم
***
ولكن العجيب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، رغم كل ما أحاط به من أسباب للهموم والأحزان -والتي أشرنا إلى بعضها- إلا أنه -صلى الله عليه وسلم- كان دائمًا منشرح الصدر قرير العين مطمئن القلب هادئ البال غزير الحلم موفور السعادة، فكأنه لا يكترث بكل تلك المصائب! والسؤال: كيف، ولماذا؟
ونستطيع في الإجابة عن هذا السؤال أن نتكلم كثيرًا ونفصِّل تفصيلًا، لكننا لن نفعل ذلك، بل سنجمل إجابتنا في نقطتين اثنتين:
النقطة الأولى: أنه -صلى الله عليه وسلم- قد خرج من همومه الشخصية إلى همومه الدينية والدعوية، قد خرج من هموم دنياه إلى هموم آخرته، قد رأى هموم الدنيا وأحزانها على حقيقتها؛ صغيرة زائلة تافهة... ثم رأى الباقي والخالد والثمين هو أمر دينه ودعوته وآخرته.
ومن شدة حمله -صلى الله عليه وسلم- لهذا الهم؛ هَمّ دعوته، عاتبه ربه -عز وجل- مرة ومرة ومرة، فأما الأولى فتقول: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)[الكهف: 7]، والثانية: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)[الشعراء: 3]؛ أي: لعلك قاتل نفسك ومهلكها؛ حزنًا لأنهم لم يؤمنوا بهذا القرآن، والثالثة: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)[فاطر: 8]؛ "أي: فلا تهلك نفسك حزنًا على ضلالهم وعدم اتباعهم لك"(تفسير القاسمي).
وهذا أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يحمل نفس الهم فيقول: "والله ما نمت فحلمت، ولا شبهت فتوهمت، وإني على طريقي ما زغت"(تاريخ المدينة لابن شبة)... وهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان ينعس وهو جالس، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إلا تنام؟ فقال: "كيف أنام؟! إن نمت بالنهار، ضيّعت حقوق الناس، وان نمت بالليل ضيّعت حظي من الله"(بحر الدموع، لابن الجوزي).
فلنسأل نحن أنفسنا الآن: ما هو الهم الذي ينبغي لنا أن نحمله؟
***
لكن يا تُرى ماذا يصنع المسلم إذا ما اجتمعت عليه الهموم، وأحاطت به من كل صوب الغموم، وتكالبت عليه الخطوب، وضاقت في وجهه الدروب، وانسدت في عينه السبل، فأسره الحزن رغم أنفه، وحل عليه الهم مجبرًا غير مختار؟... وما هو دواء الهموم والغموم والأحزان؟
نجيب: أولًا: الوقاية خير من العلاج: والوقاية هنا تكون بالاستعاذة، تمامًا كما كان يفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان دائمًا وأبدًا يستعيذ بالله من الهم والحرن، فعن أنس بن مالك، يقول: ...كنت أخدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلما نزل، فكنت أسمعه يكثر أن يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين وغلبة الرجال"(متفق عليه)، وفي لفظ للنسائي يقول أنس: " كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعوات لا يدعهن كان يقول" ثم ذكره.
وثانيًا: الدعاء: فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما قال عبد قط، إذا أصابه هم أو حزن: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وأبدله مكان حزنه فرحًا"، قالوا: يا رسول الله، ينبغي لنا أن نتعلم هذه الكلمات؟ قال: "أجل، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن"(رواه ابن حبان، وصححه الألباني).
وثالثًا: قراءة القرآن: ألم يقل الله -عز وجل-: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[الإسراء: 82]، وقال -تعالى- عن القرآن أيضًا: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ)[فصلت: 44]، وقال -عز من قائل-: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[يونس: 57].
ورابعًا: فعل الطاعات واجتناب المعاصي: فليست مصائب الدنيا وحدها هي سبب الهموم والأحزان، وإنما قد يكون الهم والحزن عقوبة على الذنب، ودواء الذنوب التوبة، ولقد قال الحسن البصري -رحمه الله-: "إن الرجل ليعمل الحسنة فتكون نورًا في قلبه وقوة في بدنه، وإن الرجل ليعمل السيئة فتكون ظلمة في قلبه ووهنًا في بدنه"(أورده ابن أبي شيبة في مصنفه).
وخامسًا: اليقين أن الهم والغم من مكفرات السيئات، فعن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما يصيب المسلم، من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه"(متفق عليه)، فمن علم ذلك حمد الله -تعالى- وشكره على كل غم وهَمٍّ يصيبه.
وفيما يلي من خطب منتقاة سوف يجد المتصفح -إن شاء الله- سبلًا أخرى لدفع الهم والحزن.
التعليقات