اقتباس
والمؤذن يشهد له يوم القيامة كل من سمع أذانه في الدنيا، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة"، وفائدة "هذه الشهادة إشهار المشهود له يوم القيامة بالفضل وعلو الدرجة...
لقد كانت ورطة حيرت المسلمين؛ فقد علموا أن الصلوات المفروضة خمسة، وعلموا كذلك ميقات كل صلاة، ولكن حيرهم: كيف يجتمعون للصلاة؟ وبأي وسيلة يُعْلِمون الناس بأن موعدها قد حان؟ ولا يتركونها لاجتهاد كل فرد من المسلمين؟! وكانت اقتراحات عديدة؛ منها أن يقلدوا اليهود في قرنهم أو النصارى في ناقوسهم! ولكن كيف ذلك وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- حريصًا كل الحرص على استقلالية الأمة الإسلامية وتميزها على سائر الأمم، لدرجة أنه -صلى الله عليه وسلم- قد نهى عن كل تشبه بهم فقال: "ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى"(رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
لذلك أنعم الله -عز وجل- على الأمة وألهمها ما هو خير من البوق والناقوس؛ إنه الأذان شعار المسلمين، ودعونا نستمع إلى القصة على لسان عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- إذ يقول: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلوات، وليس ينادي بها أحد، فتكلموا يومًا في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسًا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: قرنًا مثل قرن اليهود، فقال عمر: أولا تبعثون رجلًا ينادي بالصلاة؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا بلال قم فناد بالصلاة"(متفق عليه).
لكن كيف يكون النداء بالصلاة؛ ما صفته؟ وما هيئته؟ وماذا يقال فيه؟... لقد جاء الإلهام من الله -عز وجل- في صورة منام رآه بعض الصحابة -رضي الله عنهم-، فعن عبد الله بن زيد قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد هم بالبوق، وأمر بالناقوس فنحت، فأري عبد الله بن زيد في المنام، قال: رأيت رجلًا عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسًا، فقلت له: يا عبد الله تبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: أنادي به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قلت: وما هو؟ قال تقول: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله"، قال: فخرج عبد الله بن زيد، حتى أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأخبره بما رأى، قال: يا رسول الله، رأيت رجلًا عليه ثوبان أخضران، يحمل ناقوسًا، فقص عليه الخبر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن صاحبكم قد رأى رؤيا، فاخرج مع بلال إلى المسجد فألقها عليه، وليناد بلال؛ فإنه أندى صوتًا منك"، قال: فخرجت مع بلال إلى المسجد، فجعلت ألقيها عليه وهو ينادي بها، قال: فسمع عمر بن الخطاب بالصوت، فخرج فقال: يا رسول الله، والله لقد رأيت مثل الذي رأى(رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني)، وزاد الترمذي: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال -عند قولة عمر-: "فلله الحمد، فذلك أثبت".
وصار النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم هذا الأذان بنفسه لأصحابه، فعن أبي محذورة قال: علمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأذان فقال: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله..."(رواه مسلم، والنسائي واللفظ له)... ومن يومها وصار هذا هو نداؤنا للصلاة إلى يوم القيامة.
***
وليست فائدة الأذان الوحيدة هي الإعلام بدخول وقت الصلاة؛ بل إن الأذان شعار جلي وعلامة فارقة وأمارة ظاهرة لإسلام الناس وحقن دمائهم؛ فعن أنس بن مالك: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا غزا بنا قومًا، لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذانًا كف عنهم، وإن لم يسمع أذانًا أغار عليهم"(رواه البخاري).
ومن بركات الأذان أيضًا أنه يطرد الشيطان: فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان، وله ضراط، حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضى النداء أقبل، حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر، حتى إذا قضى التثويب أقبل..."(متفق عليه).
***
وفي الأذان من الأجور ما لو أدركه الناس لتسابقوا وتنافسوا على الفوز به؛ فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا..."(متفق عليه)؛ "ومعناه: أنهم لو علموا فضيلة الأذان وقدرها وعظيم جزائه، ثم لم يجدوا طريقًا يحصلونه به؛ لضيق الوقت عن أذان بعد أذان، أو لكونه لا يؤذن للمسجد إلا واحد، لاقترعوا في تحصيله"(شرح النووي على مسلم).
والمؤذن يشهد له يوم القيامة كل من سمع أذانه في الدنيا، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة"(رواه البخاري)، وفائدة "هذه الشهادة إشهار المشهود له يوم القيامة بالفضل وعلو الدرجة"(شرح الزرقاني على الموطأ).
والمؤذنون من الأفاضل يوم القيامة؛ فقد سمع معاويةُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: "المؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة"(رواه مسلم)، "قيل معناه: أكثر الناس تشوفًا إلى رحمة الله -تعالى-... وقال النضر بن شميل: إذا ألجم الناس العرق يوم القيامة طالت أعناقهم لئلا ينالهم ذلك الكرب والعرق، وقيل معناه: أنهم سادة ورؤساء، والعرب تصف السادة بطول العنق..."(شرح النووي على مسلم).
وللمؤذن أجر جميع من صلوا معه؛ فقد نقل إلينا البراء بن عازب أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "والمؤذن يغفر له مد صوته، ويصدقه من سمعه من رطب ويابس، وله مثل أجر من صلى معه"(رواه النسائي في الكبرى، وصححه الألباني).
***
وكل ما سبق من الفضائل إنا هي للمؤذنين... لكن ماذا عن عامة المسلمين الذين يستمعون الأذان ولا يؤذنون؟
نقول: أولًا عليهم أن يرددوا خلف المؤذن؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا سمعتم النداء، فقولوا مثل ما يقول المؤذن"(متفق عليه).
وثانيًا: أن يدعوا الله -تعالى- بعد الأذان؛ فعن جابر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة"(رواه البخاري)... وكذلك: "من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، رضيت بالله ربًا وبمحمد رسولًا، وبالإسلام دينًا، غفر له ذنبه"(رواه مسلم).
فكل من اشتغل بالأذان مأجور؛ سواء المؤذن الذي ينادي على الأسماع بكلماته، أو المنصت له الذي يكرر خلفه ثم يدعو بعده، أو المستجيب للأذان الذي يأتي المسجد فيصلي في جماعة... وقد جمعنا هذه الباقة المورقة من الخطب النافعة لنزيد الأمر جلاء وتأصيلًا وتوثيقًا، فإليك:
التعليقات