اقتباس
"هم الأخسرون ورب الكعبة"، فليس مجرد "خاسر"، بل هو الأخسر؛ فبدلًا من أن يكون ماله سببًا في دخوله الجنة؛ فيخرج الزكاة والصدقات، ويصل الأرحام، ويكفل الأيتام، ويطعم المساكين، فيكون ممن قال -صلى الله عليه وسلم- فيهم: "نعم المال الصالح مع الرجل الصالح"، إذا بماله يسوقه إلى نار جهنم -عياذًا بالله-، فما أخسره! وما أجهله!...
إن تبعات الحروب ثقيلة؛ دماء تُسفك، وأطفال تيتم، ونساء تترمل، وأمهات تبكي لفقدان أولادها، وأفئدة تحترق، وبلاد تخرب، وأموال تتبدد، وعداوات وآهات وصرخات وويلات... لكن من العجيب الغريب أن يأتي أرحم الأمة بعد نبيها -صلى الله عليه وسلم-؛ أبو بكر الصديق: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر"، ويشن حربًا على قوم ما ارتكبوا إلا مخالفة واحدة، لدرجة أن الفاروق عمر بن الخطاب -المعروف بشدته في الحق-: "وأشدهم في أمر الله عمر"(رواه الترمذي، وصححه الألباني)، عارض هذه الحرب وراجع أبا بكر في شأنها!
فعن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واستخلف أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني ماله، ونفسه، إلا بحقه وحسابه على الله"، فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة، والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعه، فقال عمر بن الخطاب: فوالله، ما هو إلا أن رأيت الله -عز وجل- قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق(متفق عليه).
فهل كان أبو بكر الرقيق الأسيف الرحيم، يضع الشدة في غير موضعها؛ فيقاتل الناس من أجل "عقال" وهو الحبل الذي يربط به البعير، أو من أجل "عناق" -كما في رواية- وهي أنثى الماعز التي لم تبلغ سنة؟! نجيب: أبدًا ما كان، بل لقد أنقذ الله -تعالى- بهذه الشدة من أبي بكر دين الإسلام والمسلمين؛ ولو لم يقاتلهم أبو بكر -رضي الله عنه- لانفرط العقد واستأصلت شأفة الإسلام، فإنهم منعوا فريضة محكمة واجبة من فرائض الإسلام، ورد في منعها التغليظ في آيات القرآن الكريم، وأحاديث السنة النبوية الصحيحة.
فأما القرآن الكريم فقد أخبرنا أن المال الذي لا تؤدى زكاته يُعذب به صاحبه في نار جهنم: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)[التوبة: 34- 35].
وأما السنة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من آتاه الله مالًا، فلم يؤد زكاته، مُثِّلَ له ماله يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه -يعني بشدقيه- ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك"(رواه البخاري)، فهو أيضًا يُعذب بماله، فتلك عقوبة مانع الزكاة في الآخرة.
ولعلك تسأل عن المراد بكلمة "الكنز" التي تكررت في الآية والحديث، ويجيب العلماء قائلين: كل مال وجبت فيه الزكاة ثم لا تؤدى زكاته فهو كنز، فعن عبد الله بن دينار قال: سمعت عبد الله بن عمر وهو يُسأل عن الكنز، ما هو؟ فقال: "هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة"(البيهقي في الشعب).
***
ولمانع الزكاة عقوبات أخرى في الدنيا قبل الآخرة، فأولها: أن يأخذ ولي الأمر منه الزكاة قسرًا، ويأخذ معها نصف ماله تعزيرًا له على منعها، والدليل على ذلك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الزكاة: "من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا، لا يحل لآل محمد منها شيء"(رواه النسائي وأبو داود، وحسنه الألباني).
وأما العقوبة الدنيوية الثانية: فهي معاملتهم بخلاف مقصودهم؛ فما بخلوا بالزكاة إلا ليتنعموا ويتقلبوا في متاع الدنيا، لكن الله -تعالى- يعاقبهم عقابًا من جنس عملهم؛ فيمنع عنهم رفده ورزقه وسعته كما منعوا عن الفقراء حقهم، وذلك إذا شاع فيهم منع الزكاة، فعن بريدة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين"(رواه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني لغيره)، والسنين هي المجاعات.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا"(رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني)، وهذا كعب بن مالك -رضي الله عنه- يقول: "إذا رأيت المطر قد قحط فاعلم أن الزكاة قد منعت..."(البيهقي في الشعب).
وأما العقوبة الدنيوية الثالثة: فمحق البركة من ماله، ونزول الآفات، فقد قرر القرآن الكريم قائلًا: (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ)[محمد: 38]، وإن كانت الزكاة تُبعد عن صاحبها شر ماله: "من أدى زكاة ماله، فقد ذهب عنه شره"(رواه الطبراني في الأوسط، وحسنه الألباني لغيره)، فإن من لم يخرجها سيحيط به شر المال لا محالة، فيعيش تعيسًا مكروهًا، ويموت بئيسًا مذمومًا، ويُبعث شقيًا معذبًا.
***
ومانع الزكاة ليس فقط "خاسرًا"، بل هو "الأخسر" -والعياذ بالله-؛ فعن أبي ذر قال: انتهيت إليه وهو في ظل الكعبة، يقول: "هم الأخسرون ورب الكعبة، هم الأخسرون ورب الكعبة"... فقلت: من هم بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال: "الأكثرون أموالًا، إلا من قال هكذا، وهكذا، وهكذا"(متفق عليه).
نعم، هو الأخسر؛ فبدلًا من أن يكون ماله سببًا في دخوله الجنة؛ فيخرج الزكاة والصدقات، ويصل الأرحام، ويكفل الأيتام، ويطعم المساكين، فيكون ممن قال -صلى الله عليه وسلم- فيهم: "نعم المال الصالح مع الرجل الصالح"، إذا بماله يسوقه إلى نار جهنم -عياذًا بالله-، فما أخسره! وما أجهله!
وليس ما ذكرنا هي العقوبات الوحيدة لمانع الزكاة، بل حاله أشر، ومصيره أسوء، وهذا ما يتضح من الخطب التالية لإخواننا الخطباء.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم