اقتباس
إن الخطباء والدعاة إلى الله تعالى عليهم دور أساسي في بعث هذه المعاني العظيمة في نفوس المدعوين، وتبصيرهم بمدى ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعوهم والسلف الصالحون من بعدهم من همة عالية، وعزيمة قاربت الجوزاء، ونشاط ضرب الرقم القياسي، فرمضان يعطينا دفعة للأمام لا للوراء؛ لإتقان العمل، والجد والاجتهاد في السعي ..
من المفارقات التي تحمل بعدًا عميقًا في فلسفة الصيام في الإسلام، أنه فُرض في شهر شعبان من العام الثاني للهجرة النبوية الشريفة، أي قبل الممارسة الفعلية للفريضة بشهر واحد أو أقل، في حين أن غزوة بدر وقعت هي الأخرى في اليوم السابع عشر من رمضان من العام نفسه، ولا شك أن توافق الحدثين لم يأتِ اعتباطًا ولا خبط عشواء، فكل شيء في كون الله تعالى له حكمة وخُلق بقدر: (إنا كل شيء خلقناه بقدر)، فغزوة بدر هي أول حرب كبرى حقيقية بين المسلمين والمشركين، وقد سماها الله تعالى يوم الفرقان لما كان لها من أثر كبير في الأحداث فيما بعد من جانب، ومن جانب آخر لما كان لها من أثر عميق في نفوس المسلمين والمشركين معًا؛ فالمسلمون شعروا بكيانهم وقوة دولتهم التي أنشئت لتوها في المدينة، والتي لم يمر على إنشائها سوى أقل من عامين، والمشركون كذلك شعروا بمدى شوكة المسلمين وقوتهم، وأن هناك قوة خفية تؤيدهم وتعينهم وتساندهم، لا سيما والمسلمون قليلو العدد والعدة والعتاد.
والعجب أن تقع هذه المقتلة العظيمة بين الفريقين والتي راح ضحيتها حوالي سبعون من صناديد وكفار قريش، العجب أن يحدث كل ذلك في شهر يقضيه المسلمون صائمين قائمين، راكعين ساجدين، بل الأعجب أن هذا الصيام كان أول صيام فريضة يؤديها المسلمون في حياتهم، وهم القوم الذين لم يعتادوا الصيام، بل لم يعرفوه من قبل، فالعرب الوثنيون لم يكن يخطر ببالهم أن هناك من العبادات ما يمتنع مؤديها عن الطعام والشراب طيلة اثنتي عشرة ساعة تقريبًا في الحر الشديد الذي كانوا يعانون منه أشد المعاناة، حتى إن كوبًا من الماء البارد عندهم كان نعمة تستوجب الشكر والامتنان.
كان الصيام معروفًا عند النصارى واليهود الذين كانوا بالمدينة، ولكن صورته كانت مختلفة عن صيام المسلمين، أما العرب الوثنيون فلم يكونوا يدرون عنه، ولا تعودوا على ممارسته، وربما كان من المسلمين من لم يصم من قبل، أو صام أيامًا قليلة من النوافل التي كان يحث عليها النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستحباب لا الوجوب.
أما الصيام مع الحرب فهذه كانت حالة جديدة على المسلمين، لم يعهدوها، ولكن يشاء الله -عز وجل- أن يتوافق الصيام مع القتال، بل وينتصر المسلمون ويلحقوا بالمشركين هزيمة نكراء تتحدث عنها الدنيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، حيث ضرب فيها المسلمون أروع الأمثلة في الصبر والثبات والاستسلام لأمر الله تعالى.
وإن من الأمور العجيبة أيضًا أن دواوين السنة وكتب الأخبار لم تنقل إلينا ولو خبرًا عن حالة واحدة من التأفف أو الانزعاج من قتال القوم أو الخروج للاستيلاء على عير قريش بسبب الصيام والحر والعطش، غاية ما في الأمر أن البعض قد مال إلى عدم القتال بسبب عدم استعدادهم بالسلاح المناسب للقتال، فالقوم خرجوا لاسترداد ما استولى عليه المشركون من أموال المسلمين أثناء الهجرة وفقط، أما القتال فلم يعدُّوا له عدته!!
إن هذه الغزوة العظيمة لهي حالة تستحق الدراسة، بل إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الجديرون بتلك الدراسة والتأمل، كيف استطاعوا أن يحققوا هذه المعادلة الصعبة ما بين صيام وعطش يمارسونه لأول مرة وبين حرب ضروس جمعت لها قريش حدها وحديدها من كل حدب وصوب.. ولكنه الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
إن شهر رمضان لم يشرعه الله -عز وجل- للقعود والتخلف عن ركب الجهاد والحركة والدعوة إلى الله، ولم يشرعه كذلك للتحجج به عن التفلت من الالتزامات الوظيفية أو الاجتماعية، بل إنه شهر نشاط وحركة، وفتوحات وانتصارات، فغالبية الهزائم التي لحقت بالشرك وأهله على أيدي المسلمين كانت في شهر رمضان المعظم، وهذا كافٍ لأن ينفض عنا غبار الكسل والدعة والخمول.
ولكننا مع الأسف نلحظ في المسلمين حالة غريبة عليهم من تضييع الحقوق في رمضان، والتملص من أداء الواجبات، والهروب من المسؤوليات، بحجة الصيام، ومقولة: "إني امرؤ صائم" صارت فزَّاعة يشهرها كل طالب أو موظف أو رب أسرة أو داعية متكاسل يود الهروب مما هو مكلف بأدائه من حق دراسته أو وظيفته أو أسرته أو دعوته، وتحول شهر الصيام في حس الكثيرين من شهر انتصارات إلى شهر انتكاسات، يُنام نهاره دفعًا للشعور بالجوع والعطش، ويسهر ليله على المعاصي استعدادًا للنوم في النهار.
إن الخطباء والدعاة إلى الله تعالى عليهم دور أساسي في بعث هذه المعاني العظيمة في نفوس المدعوين، وتبصيرهم بمدى ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعوهم والسلف الصالحون من بعدهم من همة عالية، وعزيمة قاربت الجوزاء، ونشاط ضرب الرقم القياسي، فرمضان يعطينا دفعة للأمام لا للوراء؛ لإتقان العمل، والجد والاجتهاد في السعي والضرب في الأرض، بتأدية الأعمال على وجهها الأكمل، والدعوة إلى الله بعدم تفريط ولا تقصير، والجهاد في سبيل الله بكل ما أوتي المجاهدون من قوة وعزيمة من حديد؛ منطلقين من إيمانهم بعقيدتهم، وتفانيهم في نصرة دينهم، واستفراغهم الوسع في الذب عن هذا الدين، لا سيما وهم يؤدون أسمى العبادات، وأرقاها، وأميزها، عبادة الصيام، التي ترتفع فيها الروح لتعانق النجوم؛ لتسجد تحت العرش، حتى تسمع ملائكة الرحمن قرقرة البطون جوعًا، وتحس بيبس الحلوق عطشًا، (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ * يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).
وقد وضعنا بين أيديكم معاشر الخطباء والدعاة مجموعة من الخطب المختارة حول انتصارات المسلمين في رمضان، لتكون دليلاً واقعيًا على أن شهر رمضان بالفعل شهر انتصارات وجهاد ونشاط.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم