عناصر الخطبة
1/ سيرة المصطفى تحوي الدروس والعبر 2/ أسباب غزوة بدر 3/ أحداث غزوة بدر 4/ دروس وعبر من الغزوة 5/ تكالب الأعداء على الشام والقدس 6/ سبيل نصرة الإسلام وعظة الأمة.اقتباس
إن محمداً -عليه السلام- حين جاءت الجموع في بدر ما لجأ لنصير خارجي, وسند بشري, بل رفع يديه إلى السماء, فمِنْ هناك يُستمد النصر وكفى, إنه الدعاء صلة بين العبد الضعيف والرب القوي, إنه الاتصال بمن لا يُعجِزه شيء في الأرض ولا في السماء، فأين دعوات المسلمين لإخوانهم, أين الدعاء والإلحاح على الله بنصرهم, هلاّ اعتمدنا على من أهلك عاداً الأولى وثمود فما أبقى, وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى, ولن يُعدم المسلمون مِن مستجابٍ للدعوة.
الخطبة الأولى:
الحمد لله العلي الأعلى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى وقدّر فهدى وأغنى فأقنى، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الرسول المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعتصموا بحبله فـ(مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2- 3].
أيها المسلمون: حينما تمر بالمسلم الأزمات، ويهجم عليه اليأس والقنوط من واقع المسلمين وهوانهم, حينها يجد المسلم في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- له سلوى، ويجد فيها ما يصحح المسيرة، وما ينوّر الطريق ويرفع الهمة.
وما أحوجنا في هذه الأيام والأمة تمر بأحلك عصورها! وتعاني من كيد أعدائها! أن نعود إلى سيرة المصطفى لنستلهم منها الدروس والعبر, ففيها المنهج السليم لو أننا ارتسمناه, وفي أحداثها التصرف القويم لو أننا أدركناه.
عباد الله: وتأتي موقعة بدر الكبرى من أعظم أحداث السيرة, ففيها كان الفرقان بين المسلمين والكفار, وكان يوم بدر مؤذناً بانتصار الحق على الباطل, كان يوم بدر معلناً بأن الحق لا يأخذ مكانه ما لم يكن له قوة تحميه.
بدأت أحداث الغزاة حينما بلغ رسولَ الله خبرُ عيرِ قريشٍ قادمةً من الشام بقيادة أبي سفيان فيها أموال عظيمة لقريش, فندب رسول الله الناس للخروج إليها, وخرج في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً لم يكن معهم إلا فرسان وسبعين بعيراً, وحين علم أبو سفيانَ بخروجهم بعث نذيراً إلى قريش لإنقاذ قافلتهم فخرجت قريش ولم يتخلف من أشرافهم سوى أبي لهب وحشدوا فيمن حولهم من قبائل العرب وكونوا تحالفاً تعداده ألف رجل.
وخرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس، ويصدون عن سبيل الله، وأقبلوا بحدهم وحديدهم يحادون الله ورسوله.
في تلك الأثناء استطاع أبو سفيان أن ينجو بالقافلة، فكتب إلى قريش أن ارجعوا فإنكم إنما خرجتم لتحموا عيركم، وقد نجت فهمّوا بالرجوع, لكن قائدهم الجاهلَ أبا جهل استمر في الغرور والاستكبار وعدّ هذه المحاولة عملاً إرهابيّاً لا يمكن السكوت عليه, وقال: "والله لا نرجع حتى نقدُم بدراً فنقيمَ فيها، وننحر الإبل ونشرب الخمر، وتغني لنا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبد الدهر".
والتقى الجمعان، فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، فئة ضعيفة السلاح والعدد والعتاد قوية الإيمان مؤمنة بيوم المعاد، وفئة كثيرة العدد والغناء كافرة برب الأرض والسماء.
واستنصر المسلمون الله، واستغاثوه وتضرعوا إليه, وقام المصطفى عليه السلام يلحّ على ربه بالدعاء، ويقول يا رب: إنك، إن تهلك هذه العصابة لا تُعبَد في الأرض, وظل يدعو حتى سقط ردائه عن منكبه، فقال أبو بكر يا رسول الله: كفاك مناشدتك ربك؛ فإنه منجزٌ لك ما وعدك.
فأوحى الله إلى ملائكته أني معكم، فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب، وأوحى الله إلى رسوله أني ممدكم بثلاثة آلاف من الملائكة مسومين.
وبدأت المعركة وحمي الوطيس واشتد القتال, وأبلى أهل الإسلام حينها بلاء عظيماً, أما رجالهم فينبيك عن حالهم عمير بن الحمام إذ سمع النبي -عليه السلام- يخبر أن الله أوجب الجنة لمن استشهد في سبيله، فقام عميرٌ فقال: "يا رسول الله! جنةٌ عرضها السماوات والأرض؟" قال: "نعم"، فقال: بخ بخ يا رسول الله, فقال: "ما يحملك على قولك هذا؟" قال: "لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها" قال: "إنك من أهلها", عندها أخرج تمرات من قرنه، ثم قال: "لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة فرمى بما كان معه من التمر وقاتل حتى قتل".
وأما شبابهم فينبيك عن خبرهم عبد الرحمن بن عوف؛ إذ يقول: "إني لواقف يوم بدر فنظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غلامين حديثة أسنانهما، تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما، فقال: يا عم أتعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، وما حاجتك إليه؟ قال: أخبرت أنه يسبّ الله ورسوله والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي مثل ذلك، فلم ألبث أن نظرت إلى أبي جهل، وهو يجول في الناس، فقلت: ألا تريان، هذا صاحبكم الذي تسألاني عنه فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه".
وفي تلك الغزاة ضُربت أروعُ صور الولاء والبراء, قال عبد الرحمن بن أبي بكر بعدما أسلم لأبيه أبي بكر: لو رأيتني وأنا أعرض عنك في بدر حتى لا أقتلك، فقال أبو بكر: أما إني لو رأيتك يومئذ لقتلتك, ويقابل أبو عبيدة أباه في المعركة فيقتله.
ويمر مصعب بن عمير بعد نهاية المعركة ورجل من الأنصار يأسر أخاه أبا عزيز، فقال مصعب للأنصاري: "شد وثاقه؛ فإن أمه ذاتُ مال"، فيقول أخوه: أهذه وصاتك بي وأنت أخي؟ فقال مصعب مشيراً للأنصاري: "إنه أخي دونك".
وجاء النصر وأنزل الله جنده وأيد رسوله والمؤمنين، ومنحهم أكتاف المشركين قتلاً وأسراً, فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين, وهكذا أُسدلَ الستار عن يوم الفرقان بعد أن شهد صوراً عظيمة في التضحية ومواقفَ رائعةٍ في البطولة والشجاعة.
لقد تجلى في تلك الغزاة مسلّمة (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) [البقرة: 249]، لقد أثبتت هذه المعركة أنه لا اعتبار للمقاييس البشرية تجاه قدرة الله، فها هي الفئة القليلة، تهزم جحافل كفار قريش وحلفائهم.
أما في حنين حينما أعجبت المسلمين كثرتهم لم تغنِ عنهم شيئًا، ثم ولّو مدبرين, كل هذا لتعلم الأمة أن النصر من الله, وإذا أراد المسلمون النصر على أعدائهم، فعليهم أن يتوكلوا عليه، ويعلقوا أملهم بنصره، ويتمسكوا بدينه.
أما حين يتكلوا على الأسباب المادية، ويعلقوا أنفسهم بقوة البشر, فإنهم جانبوا طريق النصر، لقد علّم الله عباده أن النصر ليس بالعدد ولا بالعُدد, فتلك أسباب ويبقى أن المدار على مقدار اتصال القلوب بقوة الله, وما عُهد في التاريخ أن المسلمون انتصروا في معركة بعددهم أو بسلاحهم، ولكن بنصر الله وعونه وتأييده.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
يتابع الجميع تغيرات الوضع في بلاد الشام, وتكالبَ أعداء الدين على أمة الإسلام, ويرى الناس اليوم تنادي النصارى واليهود والرافضة على وأد الجهاد هناك, وعلى قتل المسلمين السنة, يرون عياناً مصداق مقول الرسول عليه السلام "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها"، فثمة قصعة يؤكل منها وينتهب, وثمة تداعٍ وتكالب, وهذا ما نراه اليوم من الأعداء.
في غمرة كل هذا رأينا من هجم عليه اليأس, ومن خالجه الانهزام, ومن استبعد انتصار الإسلام, أمام كيد الكفار, والمكر الكبار, وهنا ما أحوجنا أن نتذكر أن من أسماء ربنا سبحانه: القوي, والعلي, والجبار, والحكيم, والقدير, والقهار، فهل رسخنا ذلك في نفوسنا.
إن الأمور يا كرام تُدار في السماء لا في الأرض, وإننا ونحن نرى هجمة اليهود على المسجد الأقصى أمام العالم, وتواطؤ المنافقين معهم وتشديد الحصار على أهل فلسطين, ونرى طائرات الروس تعيث في سماء الشام, وجنود إيران يقاتلون هناك, ونرى من ورائهم مكر اليهود والنصارى لنوقن، والله إن لله حكمة في كل هذا, فهو الحكيم –سبحانه-, ونوقن أنه القادر على كل شيء, والقاهر فوق كل شيء, ولن تستطيع قوى البشر قاطبة أن ترد نصراً أراده, لكن دون النصر ابتلاء, وللتمكين أسباب, فهل أخذنا بذلك.
لا تحملوا همّ انتصار الدين, بل احملوا همّ تعبيد الناس لرب العالمين, وتعليقهم به في كل حين, فإن تمّ هذا قُضي الأمر.
لقد حدثنا التاريخ أن المسلمين انتصروا في معارك عددهم لا يبلغ عُشر عدد عدوهم, والناصر –وهو الله- هو الذي نرجوه اليوم, لا تقولوا تبدل الزمن, وتغيرت القوى, بل كل ذلك بيد الله, لكن: أروا ربكم من نفوسكم به تعلقاً, وعليه إقبالاً, وله توجهاً ولجأَ.
إن محمداً -عليه السلام- حين جاءت الجموع في بدر ما لجأ لنصير خارجي, وسند بشري, بل رفع يديه إلى السماء, فمِنْ هناك يُستمد النصر وكفى, إنه الدعاء صلة بين العبد الضعيف والرب القوي, إنه الاتصال بمن لا يُعجِزه شيء في الأرض ولا في السماء، فأين دعوات المسلمين لإخوانهم, أين الدعاء والإلحاح على الله بنصرهم, هلاّ اعتمدنا على من أهلك عاداً الأولى وثمود فما أبقى, وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى, ولن يُعدم المسلمون مِن مستجابٍ للدعوة.
يا كرام: الأمة اليوم ولا شك تمر بأزمة صعبة, ومحن عصيبة, في اليمن, وفلسطين, والشام, والعراق, وغيرها, ولكننا على ثقة بربنا متى ما أخذنا بأسباب التمكين, التي يقول المولى عنها (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 40]، نعم له سبحانه وحده عاقبة الأمور, فإن أرادت الأمة التمكين، فلتراجع نفسها أمام هذه الخصال الأربع: إقامةِ الصلاة, وإيتاءِ الزكاة, والأمر بالمعروف صغيره وجليله, والنهي عن المنكر حقيره وكبيره.
يا قوم: مهما بلغت قوى العدو فثقوا أن الله أقوى, ومهما تطورت أسلحتهم فأيقنوا أنه لا يعلم جنود الله إلا هو, ومهما اتحد هدفهم, واجتمعت قوتهم, فاذكروا أن ربنا هزم الأحزاب وحده, فلا يخشى مَن معه ربه, ولا يُهزم مَن الله ناصره, ولا يُقهر مَن ربه القهار الجبار المنتقم.
وبعد يا مسلمون: فحين يستمد الناس النصر من الأرض فحري بنا أن نلتمسه من السماء, وقد علمنا القرآن أنه إذا التجأ العبد لربه غيّر الله قوى الأرض وجعل الكفة له, ففي القرآن قال نوح كلمتين اثنتين فقط: (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) [القمر: 10]، ففتحت السماء بالماء, وأغرقت الأرض لينجو نوح والمؤمنون, فاللهم علّق قلوبنا بك, واجعل نهاية شدائدنا كنهاية يوم الفرقان.
اللهم صلّ وسلم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم