اقتباس
فهل من المعهود في زماننا -أو في أي زمان- أن يُقْدِم والد حنون شفوق على ذبح ولده فلذة كبده وحبة فؤاده الذي ظل يتمناه عمره وينتظر قدومه دهرًا لمجرد رؤيا رآها؟! إنه نبي الله إبراهيم -عليه السلام- فلقد رأى ليلة التروية كأن قائلًا يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا، فلما أصبح تروى في نفسه؛ أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان؟ فسمي ذلك اليوم يوم التروية، فلما...
لقد كان يومًا مشهودًا مهيبًا، ففي مثل هذا اليوم؛ يوم النحر، ومنذ ما يزيد عن ألف وأربعمائة عام، وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ناقته يخطب في أكثر من مائة ألف من الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- يقول لهم: "أي يوم هذا؟" فيجيبوه: الله ورسوله أعلم، فيسكت حتى يظنوا أنه سيسميه بغير اسمه، ثم يقول: "أليس يوم النحر"(متفق عليه)... ثم يواصل -صلى الله عليه وسلم- حديثه، فيجمع في خطبته تلك أصول الدين وقواعده وأركانه، ويوصيهم وصية الوداع في حجة الوداع... وقد كانت هذه الوقفة والخطبة والوصية في يوم النحر، ويومنا هذا هو يوم النحر.
***
واليوم يوم الذكرى والعبرة: هي ذكرى لا ينساها المسلمون في كل عيد أضحى؛ ذكرى تلك الأسرة المباركة التي سنت لنا سننًا يتبعها كل حاج أو معتمر إلى يومنا هذا من سعي ورجم وشرب من ماء زمزم... فالأب إبراهيم والأم هاجر والولد إسماعيل، قصة لخصها لنا الشاعر حين قال:
فاضت بالعبرة عيناه *** أضناه الحلم وأشقاه
شيخ تتمزق مهجته *** تتندى بالدمع لحاه
ينتزع الخطوة مهمومًا *** والكون يناشد مسراه
وغلام جاء على كبر *** يتعقب في السير أباه
والحيرة تثقل كاهله *** وتبعثر في الدرب خطاه
ويهم الشيخ لغايته *** ويشد الابن بيمناه
بلغا في السعي نهايته *** والشيخ يكابد بلواه
لكن الرؤيا لنبي *** صدق وقرار يلقاه
والمشهد يبلغ ذروته *** وأشد الأمر وأقساه
إذ تمرق كلمات عجلى *** ويقص الوالد رؤياه
وأمرت بذبحك يا ولدى *** فانظر في الأمر وعقباه
ويجيب العبد بلا فزع *** افعل ما تؤمر أبتاه
لن نعصى لإلهى أمرًا *** من يعصي يومًا مولاه
واستل الوالد سكينا *** واستسلم ابنٌ لرداه
ألقاه برفق لجبين *** كي لا تتلقى عيناه
أرأيتم قلبًا أبويًا *** يتقبل أمرًا يأباه؟!
أرأيتم ابنًا يتلقى *** أمرًا بالذبح ويرضاه؟!
وتهز الكون ضراعات *** ودعاء يقبله الله
تتوسل للملأ الأعلى *** أرض وسماء ومياه
ويقول الحق ورحمته *** سبقت بفضل عطاياه
صدقت الرؤيا لا تحزن *** يا إبراهيم فديناه
بل لقد قصَّها علينا القرآن في أجمل وأروع وأبهى كلمات قائلًا: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)[الصافات: 102-107]، فصار الفداء والتضحية من يومها سنة.
***
فاليوم يوم الفداء والتضحية: لقد صارت قصة الفداء شعارًا من شعارات المسلمين ورمزًا من رموزهم، فهي قصة اتصال الأرض بالسماء واستجابة الله -تعالى- لأنين قلبي إبراهيم وهاجر الوالدين المكلومين شفقة على ولدهما الذي يوشك أن يُذبح بيد أبيه! فيُنزِل الله -عز وجل- الفداء؛ كبشًا أملحًا أقرنًا تغذى من طعام الجنة ورعى فيها أربعين سنة، وقال ابن عباس: "الكبش الذي ذبحه إبراهيم هو الذي قربه ابن آدم"(تفسير الخازن)، فكان فداءً ونجاة وحياة لنبي الله إسماعيل.
***
واليوم يوم الطاعة والتسليم لله -رب العالمين-: فهل من المعهود في زماننا أو في أي زمان أن يُقْدِم والد حنون شفوق على ذبح ولده فلذة كبده وحبة فؤاده الذي ظل يتمناه عمره وينتظر قدومه دهرًا لمجرد رؤيا رآها؟! إنه نبي الله إبراهيم -عليه السلام- فلقد "رأى ليلة التروية كأن قائلًا يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا، فلما أصبح تروى في نفسه أي فكر من الصباح إلى الرواح؛ أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان؟ فمن ثم سمي ذلك اليوم يوم التروية، فلما أمسى رأى في المنام ثانيًا فلما أصبح عرف أن ذلك من الله -تعالى- فسمي ذلك اليوم يوم عرفة... فلما عزم على نحره سمي ذلك اليوم يوم النحر"(تفسير الخازن)، فكانت غاية الطاعة ومنتهى الامتثال لأمر الله -تعالى-.
أرأيتم قلبا أبويًا *** يتقبل أمرا يأباه؟
***
واليوم يوم بر الوالدين: فالأعجب مما مضى أن يتقبل الولد "الابن البار" أمر ذبحه بيد أبيه ويرضى به!
أرأيتم ابنًا يتلقى *** أمرًا بالذبح ويرضاه؟!
فهو يطيع ربه ويبر أباه، فيسير خاشعًا خاضعًا خلف أبيه في مشهد لا يتخيله عقل أو يستوعبه فكر أو يحتمله قلب، سارا وفي يد الوالد سكين مشحوذ يخيف الولدَ بريقُه وحدته، ينظر إليه وهو يتوقع أن يكون بعد هنيهة فوق رقبته يحزها ويفصلها عن جسده، ومع هذا ورغم هذا فهو الطائع البار المخبت الذي يخاطب والده -الذي يهم بذبحه- في أدب ورفق ولين ومودة! هي نفوس ما أزكاها وما أحلاها وما أبهاها! نعم هو يوم بر الوالدين الذي هو دين يُستقضى؛ فكما برَّ إبراهيم -عليه السلام- أباه المشرك الكافر فخاطبه في رفق وشفقة قائلًا: (يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا)[مريم: 45]، برَّه ولده فقال له: (يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)[الصافات: 102]، وصدق من قال: "بروا آباءكم تبركم أبناؤكم".
***
واليوم يوم الأضحية: أضحية تذِّكرنا بذلك الذبح العظيم الذي فدى الله به إسماعيل -عليه السلام-، فنذبحها تقربًا إلى الله -تعالى-، وإطعامًا للفقراء والمساكين، ونشرًا للحب والمواساة بين المسلمين، وتوسعة على الأهل والأحباب والأصحاب، فنوزع منها على المحتاجين ونأكل منها وندخر إذا ما شئنا طاعة لأمر سيد الأولين والآخرين -صلى الله عليه وسلم- الذي قال: "كلوا وأطعموا وادخروا"(متفق عليه)، ونذبحها بعد صلاة العيد لا قبلها فعن البراء بن عازب قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن أول ما نبدأ في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن نحر قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء"(متفق عليه).
أما من لا يملك أضحية من الفقراء فلا يبتئس فقد ضحى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعن جابر بن عبد الله قال: شهدت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- الأضحى بالمصلى، فلما قضى خطبته نزل عن منبره، فأتي بكبش، فذبحه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده، وقال: "بسم الله، والله أكبر، هذا عني وعمن لم يضح من أمتي"(الترمذي).
***
واليوم يوم الفرح بالحلال المباح: الفرح بالطاعة لا بالمعصية، الفرح الطاهر الطيب وليس الفرح الخبيث المدنس... فرحم الله رجلًا وسَّع على أهل بيته في هذا اليوم وأدخل على صدورهم السرور والسعادة والحبور، ورحم الله امرأة نشرت البهجة والفرحة في بيتها وغرستهما في قلوب أولادها، ورحم الله من وصل أرحامه فأسعدهم وبرَّ جيرانه فأبهجهم وهنئ المسلمين بعيدهم...
***
ولعل أول من يهنئ الناس بالعيد وأقدر من يستطيع -بما حباه الله- أن ينشر الفرحة والسعادة بالعيد في قلوب المسلمين هم فرسان المنابر من الخطباء المفوهين؛ فمن خلال كلماتهم يُذهب الله -تعالى- الحزن عن المحزونين ويُدخِل الفرحة والبهجة على السامعين...
لذا فقد جمعنا اليوم عددًا من خطبهم لعام 1438هـ التي يفتح الله بها القلوب ويُبْهِج بها الأرواح ويُعلِّم بها العقول، فجاءت على الصورة التالية:
التعليقات
علي الشريقي
10-08-2019جاء في الخطبة حديثان ضعيفان : الأول : إن لكم بكل شعرة حسنة ، الثاني : تأتي يوم القيامة بأضلافها وقرونها وأشعارها ملحوظة : أرجو نشر التعليق