ربانيون لا رمضانيون - خطب مختارة لعام 1440هـ

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-06 - 1444/03/10
التصنيفات:

اقتباس

يا أهل العقول السليمة والفِطَر المستقيمة! حافظوا على ما عملتم في أيام رمضان من صيام وطاعة وقربة للرحمن، وما عملتم في لياليه من قيام وذكر وتلاوة للقرآن، ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا. وليحذر العبد أن يكون من أهل الغفلة الذين سيندمون على التفريط في الطاعة والعبادة يوم القيامة، فطوبى لمن استقام على الطاعة ولزم العبادة، وطرح الغفلة وراء ظهره، وندم على ما فرط، ولزم التوبة والاستغفار وسأل العزيز الغفار أن يغفر ذنبه، وأن يقبل عمله، وأن يعينه على الطاعة والعبادة والاستمرار عليها حتى الممات..

من مسلَّمات هذا الدين أن الله -تبارك وتعالى- خلق الخلق ليعبدوه وحده، كما قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56]، وقد شرع الله لهم من الطاعات ومواسم الخيرات ما يتقربون بها إليه، وعن قريب ودعنا شهر رمضان الذي أقبل فيه الكثيرون على الله، فصلوا وصاموا، وقاموا وتصدقوا، وغير ذلك من أعمال البر التي تقع في هذا الشهر، غير أن البعض يتغير حاله بعد رمضان، وكأنه يعبد ربًّا خاصًّا بهذا الشهر، فإذا ما انتهى من صيامه وقيامه عاد إلى لهوه وعصيانه.  

 

وإن دأب عباد الله الصالحين هو المحافظة على الطاعات، والمداومة والمسارعة في فعل الخيرات، والمداومة على الأعمال بالتوسط والاعتدال؛ فهم وسط بين طرفين ذميمين؛ أحدهما: في جانب التفريط، وذلك يكون بالعجز والكسل، وترك القيام بالعمل، والثاني: في جانب الإفراط، ويكون ذلك بالمشقة على النفس، وبذل ما هو أكثر من طاقة الإنسان في العبادات، ومن هنا دعا الإسلام إلى المداومة على العمل ولو كان قليلاً، لتكون النفس على صلة بالله دائمة، وأنشط في الإقبال على الله جل في علاه، والقليل الدائم خير من الكثير المنقطع، وأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، كما في حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سُئل: أيُّ العمل أحب إلى الله؟ قال: «أدومه وإن قل». [مسند أحمد: 6/176].  

 

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحافظ على الأعمال الصالحة ويداوم عليها ولا يتركها، ولنا فيه الأسوة الحسنة، قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: «كان رسول الله إذا عمل عملاً أثبته، وكان إذا نام من الليل أو مرض، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة، وما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام ليلة حتى الصباح، وما صام شهرًا متتابعًا إلا رمضان». [مسلم: 746].  

 

ومعنى أثبته: أي جعله ثابتًا غير متروك، وعن مسروق قال: سألت عائشة -رضي الله عنها- عن عمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: «كان يحب الدائم». قال النووي في شرحه: «فيه الحث على القصد في العبادة، وأنه ينبغي للإنسان ألا يحتمل من العبادة إلا ما يطيق الدوام عليه، ثم يحافظ عليه». [شرح النووي على صحيح مسلم6/23].  

 

وقد عقد الإمام مسلم في صحيحه بابًا قال فيه: «باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره»، ثم ساق تحته حديث عائشة وفيه تقول: « عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَصِيرٌ، وَكَانَ يُحَجِّرُهُ مِنْ اللَّيْلِ فَيُصَلِّي فِيهِ فَجَعَلَ النَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ فَثَابُوا ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَلَّ وَكَانَ آلُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا عَمِلُوا عَمَلًا أَثْبَتُوهُ». [مسلم: 782].  

 

قال النووي في شرحه: «فيه الحث على المداومة على العمل، وأن قليله الدائم خير من كثير ينقطع، وإنما كان القليل الدائم خيرًا من الكثير المنقطع؛ لأن بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والنية والإخلاص، والإقبال على الخالق سبحانه وتعالى، ويثمر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرة». [ج6/71].   وقد حث النبي -صلى الله عليه وسلم- العبد الملازم لطاعة من الطاعات إذا تركها لعذر أن يأتي بها في وقت آخر، وأخبر أن أجره ثابت لا ينقص، كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من نام عن حزبه، أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كُتب له كأنما قرأه من الليل». [مسلم: 747].  

 

ومن فضل الله على عباده أن يكتب لهم أجر ما يداومون عليه من الأعمال إذا عجزوا لعارض كالمرض والسفر، قال أبو بردة: سمعت أبا موسى مرارًا يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا مرض العبد أو سافر كُتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا». [البخاري: 2996].  

 

قال الحافظ ابن حجر: «هو في حق من كان يعمل طاعة فمُنع منها، وكانت نيته لولا المانع أن يداوم عليها، كما ورد ذلك صريحًا عن أبي داود، ولأحمد من حديث أنس رفعه: إذا ابتلى الله العبد المسلم ببلاء في جسده قال الله: اكتب له صالح عمله الذي كان يعمله، فإن شفاه الله غسله وطهره، وإن قبضه غفر له ورحمه». [فتح الباري: 6/136، 137].   وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو ربه الثبات على الطاعة، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن قلوب بني آدم عليها بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل كقلب واحد يصرِّفه كيف يشاء». ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «اللهم مصرِّف القلوب اصرف قلوبنا إلى طاعتك». [مسند أحمد: 2/168، وصححه الألباني في ظلال الجنة: 1/100].  

 

وقد ذكر الله في كتابه أن من صفاته عباده المفلحين المحافظة على الصلوات، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) [المعارج:34]، قال الشيخ الشنقيطي -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: «ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: المؤمنين المفلحين الوارثين الفردوس: أنهم يحافظون على صلواتهم، والمحافظة عليها تشمل إتمام أركانها، وشروطها، وسننها، وفعلها في أوقاتها في الجماعات في المساجد، ولأجل أن ذلك من أسباب نيل الفردوس أمر تعالى بالمحافظة عليها في قوله تعالى: «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى»، وذم وتوعد من لم يحافظ عليها في قوله: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم:59]. [أضواء البيان: 6/774].  

 

والمداومة على الطاعة سبب لمحبة الله للعبد كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَن شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَن نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ». [البخاري: 6502].  

 

قال ابن حجر: قال الفاكهاني: «معنى الحديث: أنه إذا أدى الفرائض وأتبعها بالنوافل من صلاة وصيام وغيرهما أفضى به ذلك إلى محبة الله تعالى». [فتح الباري: 11/343].   والله تبارك وتعالى لم يجعل المؤمن أجلًا دون الموت، قال الله تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99]، قال ابن كثير في تفسيره: «ويستدل من هذه الآية: أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتًا، فيصلي بحسب حاله، ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة أن المراد باليقين المعرفة، فمتى وصل أحدهم على المعرفة سقط عنه التكليف عندهم، والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته، وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع هذا أعبد وأكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة، وإنما المراد باليقين هنا الموت». [تفسير ابن كثير 2/757].   وعباد الله الصالحين لا يتغيرون ولا يتحولون، بل تجدهم في أعلى درجات الاستقامة على الطاعة والعبادة، كما قال الله فيهم: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب:23].  

 

فيا أهل العقول السليمة والفطر المستقيمة حافظوا على ما عملتم في أيام رمضان من صيام وطاعة وقربة للرحمن، وما عملتم في لياليه من قيام وذكر وتلاوة للقرآن، ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا.   وإن العاقل ذا البصيرة يعلم أن قيمة وجوده في طاعة ربه، وسرعة الاستجابة لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، كما قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال:24]، والمؤمن لا يضيع وقتًا من حياته في غير طاعة، وهو يعلم أن طاعة ربه ومولاه جماع الخير كله، وفيها الطمأنينة والسكينة، وبها تزكوا النفس وتتطهر، وعليه أن يحاسب نفسه قبل أن يُحاسب، وأن يزن أعماله قبل أن تُوزن عليه، وليتذكر دائمًا قول الله تعالى: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) [الإسراء:7].  

 

ليحذر العبد أن يكون من أهل الغفلة الذين سيندمون على التفريط في الطاعة والعبادة يوم القيامة، قال الله تعالى: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) [الزمر:56]، وقد سمى الله تعالى يوم القيامة بيوم الحسرة لكثرة النادمين فيه بعد فوات الأوان، (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) [مريم:39].   فطوبى لمن استقام على الطاعة ولزم العبادة، وطرح الغفلة وراء ظهره، وندم على ما فرط، ولزم التوبة والاستغفار وسأل العزيز الغفار أن يغفر ذنبه، وأن يقبل عمله، وأن يعينه على الطاعة والعبادة والاستمرار عليها حتى الممات.  

 

ومن أجل معالجة هذا الموضوع وضعنا بين يديك أخي الخطيب الكريم هذه الخطب المنتقاة، ونسأل الله لنا ولكم الإخلاص والقبول وحسن الخاتمة.

الخطبة الأولى:
الخطبة الثانية:
الخطبة الثالثة:
الخطبة الرابعة:
الخطبة الخامسة:
الخطبة السادسة:
الخطبة السابعة:
الخطبة الثامنة:
الخطبة التاسعة:
الخطبة العاشرة:
الخطبة الحادية عشر:
الخطبة الثانية عشر:
الخطبة الثالثة عشر:
الخطبة الرابعة عشر:
الخطبة الخامسة عشر:
العنوان
ماذا بعد رمضان 2009/10/01 43832 1671 160
ماذا بعد رمضان

من كانت حاله بعد رمضان أحسن من حاله منها قبله، مقبلاً على الخير، حريصاً على الطاعة، مواظباً على الجمع والجماعات، مفارقاً للمعاصي والسيئات، فهذه أمارة قبول عمله إن شاء الله تعالى، ومن كانت حاله بعد رمضان كحاله قبلها فهو وإن أقبل على الله في رمضان إلا أنه سرعان ما نكص على عقبه ونقض ما أبرم مع ربه من عهود ومواثيق ..

المرفقات

726

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life