عناصر الخطبة
1/ سنة الله في توالي الشهور والأيام 2/ وقفات مع رحيل رمضان 3/ صيام ست شوال 4/ أمور ينبغي التنبيه عليها في صيام ست شوالاقتباس
وسنة الله تعالى في هذه الحياة الدنيا تعاقب الليل والنهار، وهكذا الحياة، شهر يعقبه شهر، وعام يخلفه عام: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ)، وهذه الأيام تتوالى علينا، و"...كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا". وقد رأينا شهر رمضان وقد رحلت أيامه، وانقضت ساعاته، بالأمس كنا فرحين مسرورين باستقباله، واليوم نحن لفراقه محزونون ..
ومازال الحديث موصولاً بشهر رمضان، شهر الخير والبركات، فقد مكث فينا رمضان شهرًا كاملاً، وسرعان ما ودعنا ومضى، وهذا أمر طبيعي؛ فإن لكل شيء خلقه الله بداية ونهاية، والبداية والنهاية سنة كونية ربانية، لا تقتصر على مخلوقات بعينها؛ فإن الأمم والدول لها بداية ونهاية، وكذلك الأيام والساعات، وسنة الله تعالى في هذه الحياة الدنيا تعاقب الليل والنهار، وهكذا الحياة، شهر يعقبه شهر، وعام يخلفه عام: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) [النور: 44]، وهذه الأيام تتوالى علينا، و"...كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا".
وقد رأينا شهر رمضان وقد رحلت أيامه، وانقضت ساعاته، بالأمس كنا فرحين مسرورين باستقباله، واليوم نحن لفراقه محزونون، وفي وداعه لابد لنا من وقفات:
الوقفة الأولى: هل تأثرت قلوبنا في رمضان؟! مضى شهر القرآن والتقوى، والغفران والعتق من النار، فما الأثر الذي تركه في قلوبنا؟! لقد كان رمضان مدرسة إيمانية ومحطة روحية نتزود منها لبقية العام، بل لبقية العمر، إن رمضان مدرسة للتغيير، فهل بعد أن ودعنا رمضان حَسُنَتْ أخلاقنا وانضبط سلوكنا؟! وهل صلحت أحوالنا؟! هل حققنا تقوى الله -عز وجل- وجعلنا بيننا وبين النار حجابًا؟! وهل تعلمنا الصبر على طاعة الله؟!
أسئلة كثيرة وخواطر عديدة تتداعى على قلب المسلم الغيور، ويسأل بها نفسه ويجيبها بصدق وصراحة؛ ماذا فعل رمضان في قلوبنا؟! ما حالنا بعد رمضان؟! ولزام على كل واحد منا، أن يصدق في جوابه مع نفسه، وأن يترك التماس الأعذار الواهية التي يسلي أو يخدع بها نفسه.
والجواب عن هذا السؤال ما نراه ونلمسه من حال بعضنا، فبعض منا يكون متلبسًا ببعض الآثام قبل شهر رمضان، فيتأثر بروحانية الشهر، وسكينة الصيام، فيعزم على ترك ما سلف من ماضيه ويطلِّقه طلاقًا بائنًا لا رجعة فيه، وهذا الصنف إن صدق في عزمه، فسيرى من الله ما يسره: (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ) [محمد: 21]، فالخير كله سببه الصدق مع الله.
فاحمد الله الذي بلَّغك ختام رمضان، واجعل من ذلك الشهر المبارك مرحلة تنقية وتهذيب لسلوكك وأخلاقك، واعلم أن الله يتوب على من تاب؛ قال -سبحانه وتعالى-: (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأعراف: 153].
وتذكر قول نبيك -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا".
فلنعزم -إخوة الإسلام- على التوبة النصوح، ولنغتنم ذلك قبل فوات الأوان، فما زالت سكينة الصيام قريبة العهد.
الوقفة الثانية: حذار أن تكون رمضانيًا فقط: كما نرى هذه الوقفة متعلقة بالوقفة الأولى؛ إذ إن كثيرًا من الناس يجتهد في العبادة في رمضان، ثم إذا انقضي رمضان عاد إلى ما كان عليه قبل رمضان، وكأن رب رمضان ليس هو رب سائر الشهور.
وقد حذرنا الله -عز وجل- أن نكون من الذين يجتهدون في العبادة في وقت من الأوقات، ثم يتركون ذلك، فقال -سبحانه وتعالى-: (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً) [النحل: 92]، فهذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده.
فحال من يتبع رمضان بالمعاصي وترك الطاعات كحال تلك المرأة الخرقاء التي غزلت غزلاً وصنعت منه ثوبًا، فلما اكتملت أطرافه وأعجبها منظره، جعلت تقطعه خيطًا خيطًا بلا سبب، فبئس القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان، الذين لم يردعهم صيامهم عن الآثام، ولم يتغيروا عن ماضيهم قبل رمضان، بل عادوا يتخبطون في المعاصي والآثام، وأصروا على ما كانوا عليه، ومثل هذا يقال له: اتق الله يا عبد الله، واعلم أن ربك مطلع عليك، عالم بما تقول وتفعل، فدع عنك الإصرار على الذنوب، وتذكّر قول الله -عز وجل-: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران: 135].
إن كنت حقًّا ممن استفاد من رمضان بصيامه وقيامه وأداء زكاته، فلا تضيع ما سبق بترك الأعمال الصالحة وترك الطاعات بعد رمضان؛ فإن من علامات قبول العمل الصالح أن يوفق المرء بعده إلى عمل صالح يتبعه به، فاحرص على الاستمرار في عمل الطاعات، ولا تنقض العهد الذي بينك وبين الله، فتكون من الخاسرين.
ومن مظاهر نقض العهد مع الله: من يضيع صلاة الجماعة، وقد علم أن النبي -صلي الله عليه وسلم- همَّ أن يحرق البيوت على من تخلفوا عنها، وهم يؤدونها في بيوتهم، فكيف بمن يتكاسل عن الصلاة أو يضيعها؟!!
تبرج النساء الذي ملأ الشوارع والطرقات والأسواق والجامعات رغم قول الله -عز وجل-: (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) [الأحزاب: 33].
هجر تلاوة القرآن الكريم، والإعراض عن تحكيمه في كل شؤون الحياة.
الاستماع إلى الأغاني الرخيصة التي تفسد القلب وتورث الغفلة.
الجلوس الساعات الطوال أمام التلفاز الذي يفسد النشء، ويشوه صورة المسلم المتدين، بتصويره بأخلاق سيئة وصفات غريبة هو منها بريء.
الذهاب إلى أماكن الانحلال كالقرى السياحية وشواطئ البحار التي يجتمع روادها على المنكرات.
فهل هكذا تشكر النعم؟! وهل هكذا نودع شهر رمضان؟! وهل هذه علامات قبول الأعمال؟!
مرَّ وهيب بن الورد على أقوام يلهون ويلعبون في يوم العيد فقال لهم: "عجبًا لكم؛ إن كان الله قد تقبل صيامكم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كان الله لم يتقبله فما هذا فعل الخائفين".
الوقفة الثالثة: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99]: هكذا يجب أن يكون العبد مستمرًا على طاعة الله، ثابتًا على شرعه، ويعلم أن رب رمضان هو رب بقية الشهور والأيام، فيستقيم على شرع الله حتى يلقى ربه وهو عنه راضٍ، قال -سبحانه وتعالى-: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود: 112]، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتعوذ من الانتكاسة في العبادة فيقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ"، وأصله من نقض العمامة بعد لفها، أي نعوذ بالله من النقصان بعد الزيادة، ومن فساد أمورنا بعد صلاحها.
حقًّا هناك ضعف في المرء لا يستطيع التخلص منه، وليس مطلوبًا منه أن يتجاوز حدوده البشرية، لكن يجب عليه أن يتمسك بثوابت العبادات التي لا تتغير لا في رمضان ولا غير رمضان، وأن يتبعها بالنوافل من جنسها، وكما قيل: فإن من علامات قبول العمل الصالح أن يوفق المرء بعده إلى عمل صالح يتبعه به، فاجتهد أخي في الطاعات، وإياك والكسل والفتور عن طاعة الله وعبادته، فلئن انتهى صيام رمضان فهناك صيام النوافل كالست من شوال، والاثنين والخميس، والأيام البيض، وعاشوراء، وعرفة، وغيرها.
ولئن انتهت صدقة الفطر فهناك أبواب كثيرة للصدقة والتطوع.
وقراءة القرآن وتدبره ليس خاصًّا برمضان، بل في كل وقت.
ولئن كنت حريصًا على البعد عن معصية الله في رمضان فلتحرص على الاستقامة والثبات على الدين في كل حين، ونحن مأمورون بعبادة الله -جل وعلا- ما دامت أرواحنا في أجسادنا، فلا تدري متى يلقاك الموت، فاحذر أن يأتيك الموت وأنت على معصية، فالأعمال بخواتيمها.
ينبغي أن نحرص على أعمال البر والخير، وأن نكون ممن زادهم الصيام إيمانًا، فزاد حبهم للخير بجميع أنواعه، وأن نكون ممن يسارعون إلى الخيرات، ويدعون غيرهم إلى ذلك، فكل مسلم داعية إلى الله بخلقه وسلوكه وعلى قدر علمه.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فبمناسبة انتهاء رمضان، وشهر شوال الذي بدأ هو الآخر في العد التنازلي، فقد ثبت في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ".
لكن يقال قبل ذلك: من كان عليه قضاء من رمضان فليبادر إلى صيامه ثم يتبعه بست من شوال؛ ليتحقق له بذلك إكمال الصيام المفروض، ويتم له إدراك فضل الست من شوال بعد ذلك.
وفي صيام الست من شوال أمور ينبغي التنبيه عليها: من ذلك أن بعض الناس يكون عليه قضاء يوم أو يومين من رمضان، فإذا صامها في شوال جعلها معدودة من صيام ستة أيام من شوال، وهذا خلاف الصواب.
ومنه أيضًا أن بعض الناس يوجب صيام الست من شوال، وينكر ويعيب على من ترك صيامها أو صيام بعضها، وهذا الإنكار في غير محله؛ لأن صيامها من باب الترغيب في الخير، لا من باب الوجوب على المكلّف، بل يؤجر من صام، ولا يؤزر من ترك، ولكنّه يكون قد فرط في خير كثير، وفاته أجر عظيم!!
ومن تلك الأمور أيضًا أن بعض الناس يعتقد أن فضيلة صيام الست من شوال تكون بعد العيد مباشرة، وأن فضلها يقل فيما لو صامها في أوسط الشهر أو آخره، وفي ذلك نوع من الحرج بلا علم، بل من شاء صامها في أول الشهر أو في أوسطه أو آخره، وفي كل خير.
ومنها كذلك أن البعض يظن أن أفضل صيامها لا يتحقق إلا بالتتابع في أيامها، وهذا لا دليل عليه، بل الأمر في ذلك واسع، ولا فرق بين أن يتابعها أو يفرقِّها من الشهر كله، وهما سواء.
المهم أن من وفقه الله -عز وجل- إلى صيامها في الأيام الفائتة من شوال، فليحمد الله على ذلك، ومن لم يصمها حتى الآن فما زال في الشهر متسع لإدراك فضلها، وليكن همنا دائمًا أن نكون ممن يسارعون إلى عمل الخيرات، فقد مدح الله -عز وجل- من كان هذا شأنه، فقال -سبحانه وتعالى- مادحًا أنبياءه الذين هم صفوة خلقه: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 90].
نسأل الله أن نكون من أولئك الذين نفعهم الله بصيامهم وقيامهم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم