اقتباس
إن المقبل على الدَّين بلا حاجة ملحّة يتجاذبه أمران: الأول: نوازعه الداخلية ونزواته التي تدفعه دفعًا نحو هاوية الاستدانة ومستنقع الذل والهم، والآخر: عقله الذي ينهاه عن ثلم وجهه بمشرط التذلل للبشر بلا دافع، وهو بين هذين اللذين يتجاذبانه، ينظر أيمن منه فيرى الأول يزينه له شيطانه، ويسوقه إليه بسوط التطلع، وينظر أشأم منه فيرى الآخر في صورة شيخ حكيم يحمل ميزانًا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، يأمره بالاستعفاف ..
المدين لا يكاد يرفع رأسًا حتى يعود دَينه ليطأطئها من جديد، دائمًا ما يكون شارد الذهن، مشتت الفكر، حائر الفؤاد، عصبي المزاج، متقلب الأحوال، لا يتجرأ أحد على الحديث إليه أو مداعبته، تتردى علاقته بالآخرين يومًا بعد يوم؛ ذلك أن الدَّين ذل؛ فمالُ القرض ليس إلا وسمًا في وجه المدين يراه بين الناس ضعةً وصغارًا، والمقرض غالبًا ما يمارس مع المدين دور المتجبر بماله قبل أن يدفعه إليه، وذلك في غياب واضح للأدب الإسلامي الرفيع في الإقراض والاقتراض.
لأجل ذلك كره الإسلام الدَّين بلا حاجة ماسة أو ضرورة ملحّة، وحذّر من ذلك أشد التحذير، فالمسلمون أعزَّة، مرفوعو الرأس، مشدودو الظهر، أقوياء البنية والإرادة، وكل ما قد يزحزح هذه العزة عن كيانها المستقر في ضمير المسلم فهو منبوذ محتقر حتى وإن كان فعلاً مباحًا، وهذه فطرة مستقرة في نفوس البشر جميعًا، فلا يُقبل على الدَّين ويستكثر منه بلا حاجة إلا مختل النفس، متبع الهوى، سائر خلف شهوة بطنه ونفسه وملذاته، أما صاحب القلب السليم، والفطرة السوية، والنفس الأبية، فإنه ينأى بنفسه عن حفر البشر الدنيئة، وتَحَكُّمِهم في نفسه وإن جاع وتعرى، فإنه لا يزال مستغنيًا بربه عن البشر، مستعليًا على دنايا الدنيا بغنى نفسه، (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ).
وربما لجأ البعض للاقتراض بحجة الغلاء، فإذا تأملت كيف ينفق على نفسه وأبنائه وجدت عجبًا، فأجود أنواع الأطعمة لا تنقطع من منزله، ولا يلبس وزوجته وأبناؤه إلا ما يبهر العين من اللباس والزينة، فضلاً عما يضج به المنزل من صنوف الملذات والكماليات التي لا حاجة فيها سوى مزيد من التمتع بما ليس يملك، ما بين مشروبات غالية الأثمان، وحلوى من أفخر الأنواع، ولعب للأطفال من أكبر المتاجر، وأثاث تفرش به القصور والفيلات، فإذا سألت رب البيت عن سبب الاقتراض تعذّر بالغلاء مرددًا أنه اعتاد على هذا المستوى من الحياة!! فمثل هذا وإن كان يعيش -ظاهريًّا- حياة كريمة إلا أنها كئيبة منغَّصة لا متعة فيها ولا راحة بال، بل إنه إن تلذذ بها ساعة فكربه ألف ساعة، وإن تمتع بها يومًا فشقاؤه ألف يوم، فكيف يعيش حياة رغدة سعيدة هنيئة وشبح السجن يراوده حينًا بعد حين؟! وهَمُّ السداد يثقل كاهليه يومًا بعد يوم، فمثل هذا لا يكاد يفيق من ضربات الهم حتى يفاجأ بلكمات الذل، فإن أفاق منهما ارتعدت فرائصه من شبح السجن في الدنيا والحساب في الآخرة: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ).
لقد حارب الإسلام الغلاء بجميع صوره، فحثَّ التجار على التقوى في بيعهم وشرائهم، ونهرهم ورهبهم من كل ما من شأنه أن يسمح للتاجر بأن يستغل المستهلك، فمنع من المبالغة في الأسعار، ونهى عن الاحتكار، ونهى كذلك عن الغش، وبيع ما لا يملك، إلى آخر أنواع البيوع التي ربما بسبب فسادها أسهمت في رفع الأسعار والتشديد على المستهلكين. هذا من جانب التجار، أما من جانب المستهلكين فإنه حضهم على عدم السكوت على جشع التجار وإبلاغ المحتسبين بمخالفاتهم، وعالج عدم القدرة على الشراء بالاستغناء عن السلعة أو استبدال أخرى أقل قيمة بها، فليس الاقتراض حلاًّ للغلاء، بل هو نكبة إضافية ومشكلة زائدة تضاف إلى مشكلات الفقراء.
يحكى أن رجلاً ورعًا يسمى "خير الدين كججي أفندي" كان يعيش في منطقة "فاتح" بتركيا، كان عندما يسير في السوق، وتتوق نفسه لشراء فاكهة أو لحم أو حلوى يقول في نفسه: "صانكي يدم" وهي كلمة تركية تعني "كأنني أكلت"، ثم يضع ثمن الفاكهة أو اللحم أو الحلوى في صندوق له. ومضت الأشهر والسنوات، وهو يكف نفسه عن كل لذائذ الطعام والشراب وما لا حاجة ملحة إليه، ويكتفي بما يقيم أوده فقط، وكانت النقود تزداد في صندوقه شيئًا فشيئًا، حتى استطاع بهذا المبلغ الموفور بناء مسجد صغير في محلته، ولما كان أهل المحلة يعرفون قصة هذا الرجل الورع الفقير، وكيف استطاع أن يبني هذا المسجد، أطلقوا على الجامع اسم (جامع صانكي يدم).
إن في الانقياد خلف شهوات النفس دون تفكير أو عقل لعواقب الأمور اختلالاً كبيرًا في التركيبة العقلية لدى الإنسان، ففرق ما بين الإنسان والبهيمة أن الأول لديه ما يقيّم به عواقب الأمور ومآلاتها، والأخيرة تنساق خلف شهواتها دون عقل أو تفكير، ومتى ما سلك الإنسان هذا المسلك فإنه لا يختلف عن البهيمة في هذا الجانب في شيء؛ عن جابر بن عبد الله الأنصاري -رضي الله عنه- قال: اشتريت لحمًا، وبينما أنا في طريقي إلى البيت لقيني أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- وسألني: ما هذا يا جابر؟! فقلت: يا أمير المؤمنين: هذا لحم اشتهيته فاشتريته، فقال -رضي الله عنه-: يا جابر أكلما اشتهيت اشتريت؟! أما تخاف أن يقال لك يوم القيامة: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا؟!
وهذا مبدأ عُمَرِيٌّ بل إسلامي عالٍ، أكلما اشتهيت اشتريت؟! أكلما سولت إليك نفسك برغبة أو شهوة انقدت إليها فأرضيتها؟! هذا لعمري اختلال فكري ونفسي كبير، وهذا لا يعدو أن يكون حرثًا في البحر، أو حفرًا في الهواء، وذلك فيمن يملك شراء ما يشتهي، فكيف بمن يقترض ويستدين لينفق على نزواته ورغباته!! إنه يدور في حلقة مفرغة، فعما قريب يقف الديانة على بابه، ويطلبه الشرطيون من كل باب، ليبحث من جديد عمن يقرضه ليسدد دينه الأول، وهكذا دواليك، لا يكف عن الاقتراض والتسديد ولا يكف ديانته عن طلبه.
إذا لـم تستطع شيئًا فـدعه *** وجاوزه إلـى ما تستطيع وكيف تريد أن تُدعى حكيمًا *** وأنت لكل ما تهوى تبوع
وفي حديث أبي هريرة قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس"، فالتطلع لما في أيدي الناس ومحاولة محاكاتهم بما ليس من إمكانات الإنسان فيه افتئات على الشريعة وسخط على قضاء الله تعالى وقدره، بل الزهد فيها أسمى ما فيها، وترك ملذاتها من مقويات الفؤاد، ولا يزال الرجل يعرض عن اللذائذ والمتع التي تخلده إلى الأرض حتى يحصّل متعها ولذائذها الحقيقية التي لا تتحقق له السعادة إلا بها، ولا يلج باب جنة الآخرة إلا بولوجه من بابها.
إن المقبل على الدَّين بلا حاجة ملحّة يتجاذبه أمران: الأول: نوازعه الداخلية ونزواته التي تدفعه دفعًا نحو هاوية الاستدانة ومستنقع الذل والهم، والآخر: عقله الذي ينهاه عن ثلم وجهه بمشرط التذلل للبشر بلا دافع، وهو بين هذين اللذين يتجاذبانه، ينظر أيمن منه فيرى الأول يزينه له شيطانه، ويسوقه إليه بسوط التطلع، وينظر أشأم منه فيرى الآخر في صورة شيخ حكيم يحمل ميزانًا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، يأمره بالاستعفاف، وينهاه عن الإسفاف، والمرء بين هذا وذاك، يميل إلى الأول تارة وإلى الأخير تارة، فأيهما كان أقوى مالَ معه، فإن استطالت نفسه على عقله مال إليها وأغرق نفسه وعقله، وإن تفوق عقله على نفسه مال إليه، ونجا ونجوا جميعًا.
وبين أيديكم في هذا الأسبوع مجموعة من الخطب المختارة التي تدور حول مدى تفشي وانتشار ظاهرة الاستدانة لأجل المفاخرة والإنفاق الزائد عن الحد، نحاول من خلالها استقراء هذا الواقع وطرح الحلول للحد من هذه الظاهرة التي كرهها الإسلام وحث على نبذها وتركها، مع ذكر بعض من آداب الاقتراض والاستدانة، وما ينبغي على المقرض أن يتصف به من التيسير على المدينين المحتاجين الذين أعسرتهم الظروف عن الأداء، سائلين الله تعالى التخفيف عن الجميع.
التعليقات