الشوق العميق إلى حج بيت الله العتيق - خطب مختارة

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات:

اقتباس

كان الشوق المكنون في قلوب المسلمين للوصول إلى الحرمين الشريفين يحدو المسلمين من أقاصي الأرض في كل أحوالهم، ويخفف عنهم آلام السفر ومشاق الطريق ومخاطره، فمنهم من مات في طريقه إلى الحج، ومنهم من أصابته شدائد في سفره، فما ضرهم ما أصابهم، بل تحملوا الشدائد راضين سعداء، راجين رضوان الله، ومنهم من...

ما سر انجذاب القلوب إلى بيت الله الحرام؟ لماذا كلما زاره العبد ازداد له شوقاً وبه تعلقاً وعليه إقبالاً؟ لقد صدق من وصفه بمغناطيس القلوب فما سر هذه الأشواق؟ لا نجد إجابة أصدق من كلام رب العالمين القائل: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)[البقرة: 125].

 

قال ابن القيم -رحمه الله- معلقاً على هذه الآية: "ولو لم يكن له شرف إلا إضافته إياه إلى نفسه بقوله: (وطهر بيتي) لكفى بهذه الإضافة فضلاً وشرفًا، وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه، وسلبت نفوسهم حبًّا له وشوقًا إلى رؤيته، فهو المثابة للمحبين يثوبون إليه، ولا يقضون منه وطرا أبدًا، كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له حبا وإليه اشتياقا، فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يسليهم، كما قيل: أطوف به والنفس بعد مشوقة *** إليه وهل بعد الطواف تداني؟! وألثم منه الركن أطلب برد ما *** بقلبي من شوق ومن هيمان فو الله ما أزداد إلا صبابة *** ولا القلب إلا كثرة الخفقان فيا جنة المأوى ويا غاية المنى *** ويا منيتي من دون كل أمان أبت غلبات الشوق إلا تقرباً *** إليك فما لي بالبعاد يدان وما كان صدّي عنك صد ملالة *** ولي شاهد من مقلتي ولساني دعوت اصطباري عند بعدك والبكا *** فلبّى البكا والصبر عنك عصاني وهذا مُحِبّ قاده الشوق والهوى *** بغير زمام قائد وعنان أتاك على بعد المزار ولو ونت *** مطيته جاءت به القدمان (بدائع الفوائد: 2-281).   

 

أذن إبراهيم -عليه السلام- في الناس بالحج فأجابوا، ودعاهم فلبوا؛ جاءوا إليه رجالاً على أرجلهم، وركبانا على كل ضامر، جاءوا للحج من كل فجّ، الشوق يحدوهم، والرغبة تسوقهم.. فهل مرَّ بك ركب أشرف من ركب الطائفيين، وهل شممت عبيراً أزكى من غبار المحرمين، وهل هزَّك نغم أروع من تلبية الملبين، لقد كان شوق السلف الصالح للبيت - مع بعد الشقة، وصعوبة الترحال، وقلة الظهر، وشدة الحال - شيئاً لا يوصف يصدق عليهم قول القائل: 

هتف المنادي فانطلق يا حادي *** وارفق بنا إن القلوب صوادي 

تتجاذب الأشواق وجد نفوسنا *** ما بين خافٍ في الضلوع وباد 

وتسافر الأحلام في أرواحنا *** سفراً يجوب مفاوز الآماد 

ونطوف آفاق البلاد فأين في *** تطوافنا تبقى حروف بلاد 

هتف المنادي فاستجب لندائه *** وامنحه وجدان المحب وناد 

لبيك .. فاح الكون من نفحاتها *** وتعطَّرت منها ربوع الوادي 

لبيك .. فاض الوجد في قسماتها *** وتناثرت فيها طيوف وداد 

لبيك ..فاتحة الرحيل وصحبه *** هلا سمعت هناك شدو الشادي 

هذا الرحيل إلى ربوع لم تزل *** تهدي إلى الدنيا براعة هاد 

هذا المسير إلى مشاعر لم تزل *** تذكي المشاعر روعة الإنشاد

 

كان الشوق المكنون في قلوب المسلمين للوصول إلى الحرمين الشريفين يحدو المسلمين من أقاصي الأرض في كل أحوالهم، ويخفف عنهم آلام السفر ومشاق الطريق ومخاطره، فمنهم من مات في طريقه إلى الحج، ومنهم من أصابته شدائد في سفره، فما ضرهم ما أصابهم، بل تحملوا الشدائد راضين سعداء، راجين رضوان الله، ومنهم من ظل لسنوات يجمع نفقة الحج وينتظر الفوز برحلة قدسية تقرِّب نفسه لباريها، وتملأ قلبه طمأنينة ورضا، وتسكب في روحة رياحين الرضا، ويرجو بذلك الوصول في الدنيا الفوز بلذة النظر إلى وجه الله الكريم.

 

إنه الشوق إلى أرض الرحمات، إنه الشوق إلى أرض العطايا والهبات، فحُقّ للنفوس أن تتوق، وحُقّ للأرواح أن تحلّق أملاً في الوصال، فخذ من خبرهم ما يبعث فيك الرغبة، ويحرك في قلبك الشوق، تعال معي نستعرض بعض حديث الأشواق:

 

- حج الشبلي، فلما وصل إلى مكة جعل يقول: "أبطحاء مكة هذا الذي أراه عياناً وهذا أنا؟! ثم غشي عليه، فأفاق وهو يقول: هذه دارهم وأنت محب *** ما بقاء الدموع في الآماق - وعن عبد العزيز بن أبي روّاد قال: "دخل مكة قومٌ حجاج ومعهم امرأة وهي تقول: أين بيت ربي؟ فيقولون: الساعة ترينه. فلما رأوه قالوا: هذا بيت ربك، أما ترينه؟ فخرجت تشتد وتقول: بيت ربي، بيت ربي، حتى وضعت جبهتها على البيت. فوالله ما رُفعت إلا ميتة".

 

- وخرجت أم أيمن بنت علي - امرأة أبي علي الروذباري - من مصر وقت خروج الحاج إلى الصحراء والجِمال تمر بها وهي تبكي، وتقول: واضعفاه، وتنشد على إثر قولها: فقلت: دعوني واتباعي ركابكم أكن*** طوع أيديكم كما يفعل العبد وما بال زعمي لا يهون عليهم وقد *** علموا أن ليس لي منهم بد وتقول: "هذه حسرة من انقطع عن البيت، فكيف تكون حسرة من انقطع عن رب البيت"؟!

 

- كان السلطان أبو الفتح ملكشاه ابن السلطان ألب أرسلان صاحب لهو وصيد وغفلة.. صاد يوماً من الأيام صيداً كثيراً فبنى من حوافر الوحش وقرونها منارة ووقف يتأمل الحجاج وهم يقطعون أرض العراق يريدون البيت الحرام، فرّق قلبه فنزل وسجد وعفر وجهه وبكى.. رق قلبه لما رأى الحجيج يجوزون من حوله، كيف لو كان معهم؟! كيف لو أجلّته ثياب الإحرام فكان يطوف معهم ويسعى ويقف بعرفه ويجمع بجمع ويبيت بمنى؟!! دع المطايا تنسم الجنوب *** إن لهــا لنبأً عجيبــاً حنينها وما اشتكت لغوباً *** يشهد أن قد فارقت حبيباً

 

وإذا كان التاريخ قد حفظ لنا ثلة من الآخرين، قد تقطعت قلوبهم شوقاً للبيت ورغبة في الحج، ففي الآخرين نبأ عجيب وأحوال غريبة، فمنهم من يبخل مع قرب الرحلة وسهولة السفر، وقلة المشاق، فسبحان من يلقي الشوق والرغبة في قلب من شاء..

 

وهذا نداء إليك يا من صد عن الخير، وانقطع به السير، أما هزّك الحادي؟! أما أسمعك الداعي؟! يا مسكين: اشتاقت العجماوات وما اشتقت، فأسرعت السير وأبطأت. ركب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ناقة إلى الحج فأسرعت به فأنشد: كأن راكبها غصن بمروحة *** إذا تدلت به أو شاربٍ ثمل عجبٌ والله من إبل تحنّ شوقاً *** ما هي بالعاقلة، وأنت عاقل!

 

فبادر الحج؛ فالفُرص فواتة، والعمر يمضي، والأحوال قُلَّب وفي الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة".

 

وتأمل في هذا الفضل العظيم، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام، فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك، يكتب الله لك بها حسنة، ويمحو عنك بها سيئة. وأما وقوفك بعرفة، فإن الله -عز وجل- ينزل إلى السماء الدنيا، فيباهي بهم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي، جاءوني شعثًا غبرًا من كل فجّ عميق، يرجون رحمتي، ويخافون عذابي ولم يروني، فكيف لو رأوني؟ فلو كان عليك مثل رمل عالج -أي: متراكم- أو مثل أيام الدنيا، أو مثل قطر السماء ذنوبًا غسلها الله عنك. وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك. وأما حلقك رأسك، فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة. فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك" (رواه الطبراني وحسنه الألباني، انظر حديث رقم: 1360 في صحيح الجامع).

 

أسال العلي العظيم الواحد الأحد الحي القيوم أن يرزقنا الوفود إلى بيته الحرام ويجعلنا من المقبولين بمنه وكرمه. اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.   ومن أجل بيان الشوق والحنين لزيارة وحج بيت الله العظيم، وضعنا بين يديك أخي الخطيب الكريم مجموعة خطب منتقاة توضح عظيم شوق السلف والخلف إلى الحج، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في الأقوال والأعمال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

 

الخطبة الأولى:
الخطبة الثانية:
الخطبة الثالثة:
الخطبة الرابعة:
الخطبة الخامسة:
الخطبة السادسة:
الخطبة السابعة:
الخطبة الثامنة:
الخطبة التاسعة:
الخطبة العاشرة:
الخطبة الحادية عشر:
الخطبة الثانية عشر:
العنوان
الشوق إلى البقاع الطاهرة 2014/09/21 6577 795 49
الشوق إلى البقاع الطاهرة

الشوقُ إلى البِقاع الطاهرة حديثُ قلبِ كل مسلمٍ، والحَنينُ يسوقُ النفوسَ إلى البلدِ الأمين، لا يقضُون منه وطَرًا، يأتون ثم يرجِعون إلى أهلِيهم، ثم يعودُون إليه.. الكعبةُ مثابةٌ للناس؛ فمن ارتكبَ ذنبًا، أو ذلَّت به قدمٌ .. طافَ بالبيت، وصلَّى مُستقبِلاً القبلة، أو حجَّ هذا البيتَ ليُغفَر ذنبُه، ويُصحِّحَ مسارِه، ويرجِع من ذنوبِه كيوم ولدَتْه أمُّه.. سألَ إبراهيمُ -عليه السلام- عندها الأمنَ والأمان، ولا تطيبُ الحياةُ بلا أمن، ولا يُستساغُ الشرابُ بلا أمان، وإذا شاعَ الخوفُ فسَدَت الدنيا، وتنغَّصَ العيش، وحلَّ بالناس الهلَعُ والذُّعرُ...

المرفقات

إلى البقاع الطاهرة

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life