اقتباس
بل إن المتدبر في الأمر يدرك أن عدم تحديد أي ليلة من العشر هي ليلة القدر هو لحكمة ربانية سامية، وليجتهد الناس في ليالي العشر كلها لا في ليلة واحدة منها، يُشعِرك بذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان، فرفعت وعسى أن يكون خيرًا لكم"، وهو -إن شاء الله- خير لنا...
لكأني بمحمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- الآن في غار حراء، وها هو أمين السماء جبريل -عليه السلام- يأتيه فيقول: اقرأ، فيجيبه: "ما أنا بقارئ"، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ)[العلق: 1-3]، فرجع بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها-، فقال: "زملوني زملوني"، فزملوه حتى ذهب عنه الروع"(متفق عليه).
ومنذ تلك الليلة المباركة واتصلت الأرض بالسماء، فقد صار محمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًا مرسلًا، وما زال جبريل -عليه السلام- يتردد على رسولنا -صلى الله عليه وسلم- بالوحي والقرآن الكريم طوال ثلاثة وعشرين سنة كاملة، ويدارس معه القرآن الكريم الذي ابتدأ نزوله في ليلة القدر كل عام في شهر رمضان الذي نسبه القرآن الكريم إلى ليلة القدر فقال: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)[البقرة: 185].
وإني لا أعلم ليلة أبدًا هي أثمن ولا أعظم ولا أجل من ليلة القدر، فالدقيقة فيها تعدل خمسين يومًا، والساعة فيها تعدل ثمانية أعوام كاملة؛ أليس قد قال الجليل -سبحانه وتعالى-: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)[القدر: 1-3]، فهي خير وأفضل وأهم من ثلاثة وثمانين عامًا، وإن كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- قد قال: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك"(رواه الترمذي)، فإن ليلة القدر -إذن- خير من عُمْرٍ كامل.
***
لكن أي ليلة هي ليلة القدر؟ ونجيب: هي قطعًا في رمضان لنص القرآن الكريم: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)[البقرة: 185]، وهي أيضًا في العشر الأخير من رمضان؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- من حديث عائشة: "تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان"(رواه البخاري)، بل في السبع الأخير لا العشر؛ لحديث ابن عمر: "تحروا ليلة القدر في السبع الأواخر"(رواه مسلم)، بل في الليالي الوترية منها؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وقد أريت هذه الليلة، ثم أنسيتها، فابتغوها في العشر الأواخر، وابتغوها في كل وتر"(متفق عليه).
بل هي واحدة من ليال محددة من العشر الأخير؛ عيَّنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، ليلة القدر في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى"(رواه البخاري)، وعلى هذا فهي ليلة الحادي والعشرين أو الثالث والعشرين أو الخامس والعشرين.
وقد جاء في رواية للحديث في البخاري أيضًا: "هي في تسع يمضين"، فتكون إذن ليلة التاسع والعشرين... لكن كثيرًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أكدوا أنها ليلة السابع والعشرين من رمضان، ويؤيده قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فالتمسوها في التاسعة، والسابعة، والخامسة"(رواه البخاري).
وأيضًا فقد قال بعض العلماء أن ليلة القدر تنتقل بين الليالي، لذلك فإن الحزم والحيطة يقولان: لن تدرك ليلة القدر يقينًا حتى تقوم الليالي العشرة الأخيرة من رمضان كلها.
وإن المتدبر في الأمر ليدرك أن عدم تحديد أي ليلة من العشر هي ليلة القدر هو لحكمة ربانية سامية، وليجتهد الناس في ليالي العشر كلها لا في ليلة واحدة منها، يُشعِرك بذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أريت ليلة القدر، ثم أيقظني بعض أهلي، فنسيتها"(رواه مسلم)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان، فرفعت وعسى أن يكون خيرًا لكم"(رواه البخاري)، وهو -إن شاء الله- خير لنا.
***
والسؤال العملي المهم الآن هو: كيف نغتنم هذه الليالي التي فيها ليلة القدر؟
والجواب: أولًا: نقتدي بهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الليالي، فتروي عائشة -رضي الله عنها- فتقول: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأواخر، ما لا يجتهد في غيره"(رواه مسلم)، وتقول: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجد وشد المئزر"(متفق عليه).
وثانيًا: نتبع هذا الجدول المقترح لاغتنام ليالي العشر الأخير من رمضان الذي فيه قطعًا ليلة القدر، ولندرك به قيام ليلة القدر الذي قال فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه"(متفق عليه)، وهو كالتالي:
صلاة العشاء والفجر في جماعة: فعن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله"(رواه مسلم).
ثم صلاة التراويح والتهجد مع الإمام، وعدم الانصراف إلا إذا انتهى من صلاته: وذلك لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من قام مع الإمام حتى ينصرف، كتب له قيام ليلة"(رواه النسائي في الكبرى).
ثم الدعاء المخلص من قلب مخبت، خاصة دعاء ليلة القدر؛ فقد سألت أمُ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قائلة: يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني"(رواه الترمذي).
ثم لا تحرم نفسك الذكر وتلاوة القرآن الكريم، وإن استطعت أن تُؤَمِّن على ليلتك بتقديم معروف إلى محتاج فينطلق قلبه متأثرًا بإحسانك داعيًا لك بظهر الغيب إخلاصًا وتذللًا لله فافعل.
وفيما يلي بعض الخطب التي تزيد الأمر جلاء ووضوحًا وتأصيلًا، فنفعك الله بها.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم