اقتباس
عندما يأمر الله تعالى بإيتاء زكاة الفطر أو المال -أمرًا نافذ الوجوب- ويجعله دَيْنًا معلقًا برقبة الغني -ولو بعد موته-، فإن ذلك معنى راقٍ في فلسفة تعامل الإسلام مع الفقر، والتكفل بالفقراء ورعايتهم والمحافظة على حياتهم، وأنهم ليسوا هملاً أو كمًّا مهملاً، بل هم ضلع في المجتمع، ومكون كبير من مكوناته، والمحافظة على نفسياتهم وإخلاء قلوبهم من الضغائن والأحقاد مقصد مهم من مقاصد الشريعة
لقد أرسى الإسلام أعلى مبادئ التكافل الاجتماعي بين البشر جميعًا لا بين المسلمين وحدهم، عندما أمرهم بتزكية المسلمين أموالهم وإنمائها وتطهيرها مما قد يشوبها من معاملات تحمل في طياتها شبهة حرام أو مكروه، ودفع هذه النسبة المعلومة من الزكاة أو النسبة التي لم يضع ربنا لها حدًّا في الصدقة المستحبة، إلى الفقراء والمساكين الذين لا يجدون ما ينفقون، وبذلك يحدث التوازن في هذه الدنيا بين الفقراء والأغنياء؛ فلا يموت الأغنياء من التخمة والشبع -كما هو الحال اليوم- في الوقت الذي يموت فيه كثير من الفقراء من الجوع.
إن تشريع الإنفاق في سبيل الله -تعالى- بالزكاة الواجبة أو الصدقة المستحبة يستحق عن جدارة أن يكون إعجازًا إسلاميًّا في حد ذاته، ذلك أننا إذا حاولنا جاهدين استقصاء فوائده على المجتمع -وعلى الفرد أيضًا- لضاق بنا المجال، ذلك أن الفقراء الذين لا يجدون حيلة للرزق لابد لهم من عائل يتكفل بالإنفاق عليهم، ولا يجوز تركهم هكذا دون راعٍ أو منفق يحتسب إيصال أرزاقهم التي كتبها الله تعالى إليهم، بل ويبذل من وقته وجهده أحيانًا لشراء ما يحتاجونه ليصلهم وهم معززون مكرمون لا يسألون الناس إلحافًا.
وهذا -لعمري- أعجب ما في الصدقة، أن صاحبها لا يبذل في تحصيلها مجهودًا يذكر -هذا فيمن يستحقها حقًّا، أما المعسرون فليسوا معنيين بكلامنا- فالمسكين أو الأرملة أو اليتيم يصلهم رزقهم هذا دون عناء يذكر، أو وظيفة يُطحنون في القيام بأعبائها صباح مساء؛ فسبحان من كتب على الغني أن يعمل ويتعب ويكد ليطعم الفقير ويرزقه من مال الله الذي آتاه. وإن شئت فقل مثل ذلك في كفارات الإطعام التي سنتها الشريعة الإسلامية الغراء.
هذا التشريع يقتل الأحقاد الطبقية التي قد تنبت في قلوب الفقراء تجاه الأغنياء، عندما يجد الفقيرُ الغنيَّ يتخلله بالزيارة، ويفيض عليه من نعم الله التي أنعم الله بها عليه، ويرزقه من مال الله الذي جعله مستخلفًا فيه، فإن ذلك يقتل الضغينة والحسد ومشاعر الكراهية في قلب الفقير، وينشأ حينها مجتمع متكافل، خال من الأمراض المجتمعية المتعلقة بالمال، فلا الفقير يقتل الغني حسدًا، ولا نَفْسَه بطرًا، ولا الغني يقتل الفقير كبرًا وتباهيًا وتبخترًا، فكلاهما يشعر بالآخر، فالفقير يشعر بحنو الغني، وعطفه، وجوده، والغني يشعر بحاجة الفقير، واستكانته، وضعفه، فيورثه ذلك تواضعًا واعترافًا بنعمة المنعم -جل وعلا-، وليس وراء ذلك تكافل خدَّاع يفعله بعض الأغنياء ليكمل به صورته البراقة، ويضيف إلى نفسه لقبًا جديدًا ضمن ألقابه التي قد تنفعه في عمل دعاية لبعض شركاته وأعماله.
عندما يأمر الله -تعالى- بإيتاء زكاة الفطر أو المال -أمرًا نافذ الوجوب- ويجعله دَيْنًا معلقًا برقبة الغني -ولو بعد موته-، فإن ذلك معنى راقٍ في فلسفة تعامل الإسلام مع الفقر، والتكفل بالفقراء ورعايتهم والمحافظة على حياتهم، وأنهم ليسوا هملاً أو كمًّا مهملاً، بل هم ضلع في المجتمع، ومكون كبير من مكوناته، والمحافظة على نفسياتهم وإخلاء قلوبهم من الضغائن والأحقاد مقصد مهم من مقاصد الشريعة.
ولا يظنن ظان أن تشريع الزكاة يصب لمصلحة الفقير فحسب، بل إن الغني له من الفائدة ما قد يعلو درجة الفقراء والمساكين، ذلك أن الصدقات بركة في الرزق، ونماء في المال وتطهير له، وهي مصدر كبير من مصادر الفرحة والسرور على قلوب الأغنياء لا يعرفها إلا من جربها حقيقةً، هذا فضلاً عن الأجر المترتب على أدائها في الآخرة.
إن كل من آتاه الله تعالى نعمة ليست عند غيره، مدعو إلى التفكر بقلب حي في أثر الإنفاق في سبيل الله تعالى في نفسه وفي المجتمع من حوله، وأن يتفكر كذلك -إن هو منع أداء شكر هذه النعمة- في مدى العطب الذي قد يصيب حياة الكثيرين بسوء فعله هذا.
لذلك وضعنا هذه المجموعة المختارة من الخطب بين أيدي خطبائنا الكرام ودعاتنا الفضلاء، لتكون دعوة للتأمل في فضل الإنفاق في سبيل الله تعالى، وأثر ذلك في الفرد والمجتمع، وأثر زكاة الفطر خاصة في إدخال البهجة والسرور على الفقراء، وكفهم عن الحاجة والسؤال في يوم العيد.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم