اقتباس
ليست ثمة قضية أجمع عليها المسلمون قديمًا وحديثًا مثلما أجمعوا على خطورة التفرق والتنازع في دين الله، وأن الاجتماع قوة تتضاءل إلى جانبها كل القوى المتفرقة، ورغم حالة الإجماع هذه إلا أن هناك حالة أخرى من الانفضاض عن هذه الفكرة بشكل يبعث على التساؤل والدهشة، فحالات التنازع والفرقة التي يغرق فيها المسلمون حتى آذانهم تأكل أخضرهم ويابسهم ..
ليست ثمة قضية أجمع عليها المسلمون قديمًا وحديثًا مثلما أجمعوا على خطورة التفرق والتنازع في دين الله، وأن الاجتماع قوة تتضاءل إلى جانبها كل القوى المتفرقة، ورغم حالة الإجماع هذه إلا أن هناك حالة أخرى من الانفضاض عن هذه الفكرة بشكل يبعث على التساؤل والدهشة، فحالات التنازع والفرقة التي يغرق فيها المسلمون حتى آذانهم تأكل أخضرهم ويابسهم، وتأتي على جهودهم للنهوض والتقدم عن بكرة أبيها، وتُفْشِل كثيرًا من ممارساتهم تجاه محاولات التجمُّع على كلمة سواء.
والمستفيد الأول من حالة التنازع ما بين المسلمين بشكل عام والدعوات الإسلامية بشكل خاص هم أعداء هذا الدين، سواء من الداخل أم من الخارج، فتشتيت الجهود غاية كل أفاق، وأمل كل أفاك، فالضربات المتفرقة غير موجعة، والضربة الصادرة عن أيادٍ مصهورة في يد كبيرة قوية لا شك أنها ضربة قاصمة رادعة، توقف المنافقين ومبتغي الفتن عند حدودهم، وتردعهم عن مزيد من حملات تشويه الصورة وإسقاط الرموز.
لذلك فإن بذرة التفتيت والتفريق يرعاها أعداء هذه الملة وأذنابهم في داخل البلاد، بإيعاز من القوى الظلامية الخارجية، التي تسعى لتطفئ نور الله بأفواهها، ولكن الله متم نوره ولو كره الكافرون، فهذه البذرة تسقى بماء التنازع، ويضاف إليها سماد تضخيم مواطن الخلاف، لتخرج من طينتها نبتة التنابز بالألقاب والسعي بالغيبة والنميمة بين أبناء الدين الواحد والقبلة الواحدة، فتتشتت جهودهم في كيل التهم لبعضهم، والتنظير لإثبات مخالفة فريق ما لقواعد الإسلام وأصوله، حتى يضيع وقت الأمة في قيل وقال، بدلاً من أن تصرف الأوقات للدعوة إلى التوحيد والأخلاق الفاضلة والسعي في الأرض والإنتاج والتقدم والنهضة.
وتعد بذرة التصارع المجتمعي التي زرعها الغرب وأذنابه في بلاد المسلمين نموذجًا مصغرًا من حالة التصارع بين الدول -الإسلامية خاصة-، فالغرب يتصور أن حياته لن تُبنى إلا على أنقاض الإسلام، وأنه ينبغي للدول الإسلامية والعربية أن تكون دويلات تابعة ذليلة للغرب حتى تقوم له قائمة، فإذا قام تكتل عربي وإسلامي قوي فإنه سيؤذن بنهاية الغرب لا محالة، وسينهي سيطرته على مقدرات البلاد والعباد، لذلك يعمل على تكريس هذا المفهوم وتكريس مبادئ الحدود بين الدول واحترام كل منها لسيادة الأخرى والفصل الكامل بين الثروات والسياسات، كل هذا لحساب الدول الغربية التي تتغول يومًا فيومًا وتنشئ كل يوم تكتلات جديدة رغم ما بينها من خلافات عقدية وسياسية ولغوية وجغرافية وأخلاقية، إلا أنهم تكتلوا واجتمعوا ليقينهم بأهمية الاجتماع ونجاعته في دفع العدوان.
لقد كان الافتراق مؤذنًا بانتهاء الخلافة الإسلامية منذ ما يقرب من مائة عام، وقبلها بانتهاء الحضارة الأندلسية بعد أن تفتت إلى طوائف وإمارات متقاتلة، وقبلها بغزو التتار للعالم الإسلامي حينما انشغل كل بلد بنفسه وملذاته وشهواته، ضاربين بالدعوات إلى الوحدة عرض الحائط، بجانب ضياع القدس الشريف والمسجد الأقصى من أيدي المسلمين حيث رزح تحت حكم الصليبيين ما يزيد عن قرنين من الزمان، ولم يعد إلى الحظيرة الإسلامية إلا حينما وحد صلاح الدين الأيوبي بلاد الإسلام مرة أخرى تحت راية واحدة وأعلن الجهاد على الغزاة، واسترد شرف الإسلام مجددًا، ثم ضياعه مرة أخرى في القرن الماضي على أيدي حفنة ضئيلة من اليهود، التي استقت قوتها وتجبرها من ضعف المسلمين وتمزقهم واختلاف راياتهم وسعيهم خلف مصالحهم الشخصية.
إن إعادة قراءة التاريخ الإسلامي، والوقوف على مواطن القوة فيه، والتي كان من أهم أسبابها وحدة المسلمين قلبًا وقالبًا، وانضواؤهم تحت راية واحدة هي راية الإسلام، وعدم تخوين بعضهم بعضًا، هي الاستفادة الحقيقية من التاريخ، فليس التاريخ مجرد قصص وحكايات تُقضى بها الساعات وتُقتل بها الأوقات، وليست عيشًا في الماضي، وإنما هي دروس وعبر تدفع الأمة دفعًا نحو المستقبل، بفكر واعٍ وقلب نابض بالحياة.
وفي مختاراتنا لهذا الأسبوع جمعنا لكم -معاشر الخطباء- مجموعة من الخطب التي تحذر من خطر الفرقة والتنازع، والأسباب التي أدت بالأمة الإسلامية إليها، والعلاجات التي على الأمة أن تسلك مسالكها ليقيها الله -عز وجل- شر هذا البلاء المهلك، وليدفع عنها هذا الداء الوبيل، سائلين الله -عز وجل- أن يعصم الأمة من الافتراق، وأن يوحد كلمتها ويجمعها على قلب رجل واحد، وأن يعينها على التصدي لمخططات أعدائها.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم