اقتباس
وقد حدثت هذه المبالغات مع شهر رجب المحرم، فأراد الجهلاء أن يعظموه، فبدلًا من أن يسلكوا سبيل الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته وتابعيه، إذا بهم ينحرفون ويستزلهم الشيطان ويسحبهم بعيدًا عن هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-! فيسقطوا في حمأة الابتداع...
يكون الناس على الجادة وعلى السنة وعلى الصراط المستقيم، حتى ينبعث أناس منهم قد يكونوا طيبي القلب لكن يغلب عليهم الجهل، يريدون أن يجوِّدوا العبادة ويتقنوها ويزدادوا من الخير، فإذا بهم يبالغون في العبادة شيئًا فشيئًا فيخرجون من حدود المشروع إلى غير المشروع، وإذا بالبدعة تطل برأسها، و"ما ظهرت بدعة إلا وماتت قبالها سنة".
فهذا رجل على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يستحدث عبادة جديدة يتقرب بها إلى ربه، ويُكلِّف نفسه ما لم يُكلِّفه الله، ويشرع لنفسه ما لم يشرعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمته، فعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى شيخًا يهادى بين ابنيه، قال: "ما بال هذا؟"، قالوا: نذر أن يمشي، قال: "إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني"، وأمره أن يركب(متفق عليه).
ويروي ابن عباس قصة رجل آخر أراد أيضًا أن يتقرب إلى الله -تعالى- بما لم يشرعه الله، فرده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليه ورفضه ولم يقره، يقول حبر الأمة: بينا النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب، إذا هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مره فليتكلم وليستظل وليقعد، وليتم صومه"(رواه البخاري).
فهي إذا قاعدة تقول: "لا يجوز التقرب إلى الله إلا بما شرعه الله"، وكل ما كان على خلاف ذلك فهو بدعة وضلالة في الدين تردي صاحبها يوم القيامة ولا تنجيه، ولقد جاءت في ذلك نصوص كثيرة، فمنها حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"(متفق عليه)، وفي لفظ في الصحيحين أيضًا: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه، فهو رد".
وبناء على هذا فقد اتفق الفقهاء أن الأصل في العبادات الحظر والتوقيف، حتى يأتي الدليل على المشروعية.
***
وقد حدثت مثل هذه المبالغات مع شهر رجب المحرم، فقد أراد الجهلاء بالدين أن يعظموه ويتقربوا إلى الله -عز وجل- فيه، بدلًا من أن يسلكوا سبيل الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الأخيار والتابعين الأبرار إذا بهم ينحرفون ويستزلهم الشيطان ويسحبهم بعيدًا بعيدًا عن هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-! ولو سلكوا ألف باب للوصول إلى مرضاة الله ما وصلوا إلا من باب الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)[الحشر: 7].
وقد ابتدعوا في شهر رجب -بجهل وبحمق- ألف بدعة وبدعة، فمن بدعهم المردودة المحدثة ما يلي:
صلاة الرغائب: ويصلونها في أول ليلة جمعة من شهر رجب، وبالتحديد بين صلاتي المغرب والعشاء، فمن أين جاءوا بها؟! ومن شرعها لهم؟! وعلى أي دليل استندوا؟! وأين هم من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي"(رواه مسلم)؟! إنك لن تلقى منهم جوابًا أبدًا؛ (مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)[الزخرف: 20].
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: عن "صلاة الرغائب هل هي مستحبة أم لا؟ [فأجاب]: هذه الصلاة لم يصلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أئمة المسلمين، ولا رغب فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا أحد من السلف، ولا الأئمة ولا ذكروا لهذه الليلة فضيلة تخصها، والحديث المروي في ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بذلك؛ ولهذا قال المحققون: إنها مكروهة غير مستحبة، والله أعلم"(الفتاوى الكبرى، لابن تيمية).
ومنها: صلاة يوم النصف من رجب: أو "صلاة أم داود"، يقول ابن تيمية: "وكذلك يوم آخر في وسط رجب، يصلى فيه صلاة تسمى "صلاة أم داود"، فإن تعظيم هذا اليوم لا أصل له في الشريعة أصلًا"(اقتضاء الصراط المستقيم).
ومنها: تخصيص شهر رجب بالصيام ظنًا أن لصيامه مزية: فقد احتجوا بحديث: "صم من الحرم واترك"(رواه أبو داود)، وفيه راوية مجهولة، وقد حكم المحدثون بضعفه، يقول ابن القيم: "وكل حديث في ذكر صوم رجب، وصلاة بعض الليالي فيه: فهو كذب مفترى"(المنار المنيف، لابن القيم)، وقال ابن رجب: "فلم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه"(لطائف المعارف، لابن رجب) ويلخص النووي الأمر قائلًا: "ولم يثبت في صوم رجب نهي ولا ندب لعينه، ولكن أصل الصوم مندوب إليه"(شرح النووي على مسلم).
ومنها: الاحتفال بالإسراء والمعراج في ليلة السابع والعشرين من رجب: ومع أن تلك الحادثة العظيمة لم يثبت أنها حدثت في رجب، فإنها حتى لو ثبتت أنها فيه فلا يشرع الاحتفال بها، يقول ابن القيم: "ولم يقم دليل معلوم لا على شهرها ولا على عشرها ولا على عينها، بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة ليس فيها ما يقطع به، ولا شرع للمسلمين تخصيص الليلة التي يظن أنها ليلة الإسراء بقيام ولا غيره"( زاد المعاد، لابن القيم).
ومنها: ذبيحة العتيرة: وهي ذبيحة كان أهل الجاهلية يذبحونها تعظيمًا لرجب، ويسمونها: "الرجبية"، وقد نهى عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبطلها قائلًا: "لا فَرَعَ ولا عتيرة"؛ والفرع: أول النتاج، كانوا يذبحونه لطواغيتهم، والعتيرة في رجب(متفق عليه).
وما أكثر تلك البدع التي ابتدعوها، وما أنزل الله بها من سلطان، والتي لا تتسع لها هذه المقدمة القصيرة، لذا فقد جمعنا من خطب خطبائنا الأجلاء ليكملوا ما بدأنا ويفصلوا ما أجملنا ويتموا ما قصرنا فيه، فإليك:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم