اقتباس
أيها المسلمون، أيها العلماء، أيها الدعاة، أيها المصلحون، أيها الخطباء: إن العالم ينتظركم، إن العالم يستغيث بكم، إن العالم يغرق ويغرق في وحله وطينه وتيهه وضلاله وكفره وجاهليته، وهو ينتظركم لتنقذوه...
يحكى أن رجلًا يبدو من مظهره أنه غير عربي، وقف في موسم من مواسم الحج عند الكعبة ثم نادى بأعلى صوته: "أيها المسلمون إنكم ظالمون"، في البداية لم يتبين الجميع قوله؛ بسبب لكنته غير العربية، فظل يعيدها ويكررها: "أيها المسلمون إنكم ظالمون"... فاجتمع عليه الناس وأحاطوا به، ثم تقدم منه أحدهم قائلًا: وكيف ظلمناك؟! ولما تقول ذلك؟!... وظل الرجل يردد نفس كلماته: "أيها المسلمون إنكم ظالمون"، وكأنهم لا يسمعه أو لا يفهمه، حتى أعاد عليه السؤال آخر وآخر وآخر...
وعندها انخرط الرجل في بكاء مرير وهو يقول: لقد مات أبي وماتت أمي وبعض أخوتي كفارًا، فهم مخلدون في جهنم، أما أنا فلولا أن الله -عز وجل- سخَّر لي من دلني على الإسلام لمت كافرًا كما ماتوا... وذنب أبي وأمي في رقابكم -أيها المسلمون- يحاجونكم عند الله -سبحانه- لأنكم قصرتم في دعوتهم إلى الدين، ولم تبلغوهم دعوة الإسلام، وتركتموهم وأسلمتموهم، فلا تصلهم عن الإسلام إلا الصورة المشوهة الممسوخة في إعلام الغرب... وانتهت كلمات الرجل المكلوم وما انتهت عبراته وآهاته... ومأساته تلك تتكرر كل يوم، لا في بلاد الكفر وحدها، بل وفي بعض بلاد المسلمين التي قصَّر فيها الدعاة والمصلحون في واجباتهم. أيها المسلمون، أيها العلماء، أيها الدعاة، أيها المصلحون، أيها الخطباء: إن العالم منتظركم، إن العالم يستغيث بكم، إن العالم يغرق ويغرق في وحله وطينه وتيهه وضلاله وكفره وجاهليته، وهو ينتظركم لتنقذوه! ففي قلب بلاد الإسلام ينتشر اليوم ما يسمونه بـ"الأمية الدينية"، نعم؛ أناس "مسلمون" وهم لا يعرفون إلا أقل القليل عن الإسلام! لا يعرفون التوحيد وما يخل به، ولا الإيمان وما ينقضه... لا يدركون ما الولاء والبراء، لم يتعلموا حتى الأحكام لفقهية والحلال والحرام، لم يطالعوا سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ويتعلموا سنته وغزواته وأيامه وأخلاقه وأوصافه، لا يعرفون عن الصحابة إلا أسماء بعضهم، ثم هم لا يفرقون بين الصحابي والتابعي... وهؤلاء جميعًا في رقاب المقصرين من العلماء والدعاة يوم القيامة!
أيها المسلمون: إن الدعوة إلى الله واجبة علينا وليست تفضلًا منا، فهي فرض عين على كل فرد من الأمة فيما يعلمه ويحسنه ويستطيعه ولو كانت مسألة واحدة من مسائل الدين أو آية واحدة من القرآن... ثم إن التفرغ لها والانتصاب للقيام بها هو فرض كفاية، فإذا قام به العلماء العاملون سقط عن أفراد الأمة، قال -تعالى-: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[آل عمران: 104].
إن الدعوة إلى دين الله -تعالى- إن لم تكن -فرضًا- واجبة فهي ضرورة من الضرورات المحتمة؛ فلما خلق الله -عز وجل- جمع فيه أوصاف النقص والضعف والحرص... وركب فيه الهوى والشهوات وحب الذات... فأنه -سبحانه و-تعالى- قد خلقه بشرًا ولم يخلقه ملَكًا، خلقه ليختبره ويمتحنه، خلقه فأمره بما يخالف الهوى الذي رُكِّب فيه... فقد خلق الله الإنسان حين خلقه ضعيفًا: (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا)[النساء: 28]، وخلقه بخيلًا: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا)[الإسراء: 100]، وخلقه جموعًا منوعًا: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا)[المعارج: 19-21]، وخلقه عجولًا لا يصبر: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا)[الإسراء: 11]، وخلقه جحودًا: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا)[الإسراء: 67]، وخلقه سريع اليأس والقنوط إذا ما أصابته مصيبة أو نُزعت منه نعمة: (لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ)[فصلت: 49]... فنستطيع القول أن لفظة: "إنسان" لم ترد في القرآن إلا مذمومة. هذا طبع الإنسان وجبلته في أصل خلقته قبل أن يهذبه الدين، لكن الله -عز وجل- لم يتركه بما هو فيه من نقص وعيب وخلل وزلل، بل أرسل له الرسل تدلُّه على الهدى وتأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر... فكانت مهمة الرسل تتلخص في كلمة واحدة هي: "الدعوة"؛ الدعوة إلى الله -تعالى-، ثم انقطعت الرسل بعد نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فلا رسول بعده: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)[الأحزاب: 40]، ومن يومها وصارت مهمة البلاغ والبيان والدعوة إلى الله هي مهمة الأمة الإسلامية كلها، أقول: من يومها وصارت الدعوة إلى الله -تعالى- فريضة محكمة على الأمة لا تنفك عنها أبدًا.
وينبغي لمن تصدر للدعوة إلى الله -تعالى- أن يعلم أصول وضوابطها وشروطها، وأن يتحلى في خاصة نفسه بآداب الدعوة، فإن للداعية سمات وصفات يجب أن يجمعها ويحوزها... ولقد قدَّم الأنبياء والرسل النماذج المشرقة المتبعة في الدعوة إلى الله -تعالى-، فهم سادة الدعاة المخلصين العالمين العاملين، سادتهم الأنبياء والمرسلون... ولا يخفى أن طريق الدعوة إلى الله -تعالى- طريق طويل شاق مليء بالأشواك والعقبات والعوائق، فليس -كما يظن المرفهين من الدعاة- طريقًا ممهدًا مفروشًا بالرياحين والورود، وكيف لا والداعي إلى الله يأمر الناس بترك ما ألفوه واعتادوه وأحبوه ووجدوا عليه آباءهم وأجدادهم، كيف لا يكون طريق الدعوة شاقًا ومهمة الدعوة والإصلاح عسيرة وهي حملٌ للناس على خلاف مقتضى أهوائهم ومعتقداتهم ومسلتذاتهم... ففي طريق الدعوة تكثر العقبات الداخلية التي تصيب الدعاة أنفسهم من مقاومة طوفان الإغراءات بالدعة والسكون والبعد عن الانشغال بالدعوة والمدعويين... وعقبات أخرى خارجية من اضطهاد الطغاة والجبارين وتضييقهم على الدعاة والمصلحين... ومن عناد أصحاب المصالح من المدعوين للدعاة... وعقبات أخرى كثيرة لا تكاد تحصى.
فكل هذا وغيره قد ضمناه في هذا الملف العلمي الذي انتظم في مباحث خمس تحت كل منها عددًا من المطالب، وقد خدمنا كل مبحث بمجموعة من المواد الدعوية المقروءة والمسموعة والمرئية ما بين خطبة ودرس ومحاضرة ومقالة وبحث... ثم جمعنا المراجع والكتب كلها في مبحث سادس وأخير... فلعل الله -عز وجل- أن ينفع بها... والله من وراء القصد.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم