عناصر الخطبة
1/ انشغال الداعية عن إصلاح نفسه من أعظم الآفات 2/ عدم احتقار المعروف ولو كان صغيرًا 3/ قد يسبق المدعو الداعية في الإقبال على الله تعالى 4/ أمثلة لأعمال صالحة قد يفرط فيها الداعية 5/ هل الانشغال بالدعوة يبرر تقصير الداعية في فعل الطاعات؟!اقتباس
إذا حدثتك نفسك يومًا بأنك أفضل من غيرك لبراعتك في الدعوة إلى الله، واشتغالك بعمل جماعي أو نحو ذلك، ورأيت لنفسك فضلاً على غيرك، فتذكر أن العامي وقليل الحيلة القاصر في باب الدعوة ونحوها من غير تعمد ولكن لضعف طاقته؛ قد يسبقك ويفضلك بهذه الأعمال، وقد يزحزحه الله بها عن النار...
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70، 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أخي المسلم الداعي إلى الله -عز وجل-: أذكر نفسي وإياك بأنه ما من شيء إلا وله آفة؛ ولذلك كان من الواجب على كل من يُقدِم على شيء أن ينتبه لآفاته حتى يكون على حذر منها، ومن ذلك قولهم على سبيل المثال: آفة العلم النسيان، وآفة المال الطغيان... ونحو ذلك، فمن أقدم على طلب العلم وهو يعلم آفته، يكون حذره بمراجعة ما يعلم ومدارسته باستمرار حتى لا يتعرض للنسيان، ومكتسب المال عليه دائمًا بالتواضع، ومجالسة المساكين والإنفاق في السر في سبيل الله، وشهود فقر نفسه وفضل الله عليه، واستحضار صعوبة الحساب وطوله على أصحاب الأموال ونحو ذلك.
ومثل ما ذكرنا أمر الدعوة إلى الله -عز وجل-، فما أكثر الأمراض والآفات التي تصيب الدعاة!! ومن أخطأه أحد هذه الأمراض أو إحدى تلك الآفات أصابه آخر، وما خفي منها على غيره علمه هو في نفسه.
ومن ثم كان على الحَذِر أن يتعلم الآفات التي قد تصيب القائم بواجب الدعوة إلى الله، ويتنبه إليها، وحسبنا في هذه الدقائق أن نتحدث عن واحدة من تلك الآفات ألا وهي: انشغال الداعي بدعوته للناس وانهماكه معهم عن إصلاحه لنفسه واهتمامه بها، وإحسان عبادته لربه، فيسهو في الفرائض، ويفرط في نوافل العبادات وطرق الخير والطاعات، ويهمل كثيرًا من أبواب البر، هذه الأمور العظيمة التي يهتم بها الصالحون من عوام الناس، بينما يفرط فيها كثير من الدعاة، مع أن الشرع رتب عليها أجرًا كبيرًا، وحثَّ عليها كثيرًا، فلا يسوغ فيها التفريط والتقصير، لاسيما للقائم بالدعوة إلى دين الله، وما هكذا كان شأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصحابة الكرام، بل كان الواحد منهم هو الداعي المجاهد، وهو القائم بالليل، الصائم بالنهار، الذاكر لله، التالي لكتابه، المعلَّق قلبُه بالمساجد، المكثر من دعاء ربه والتضرع إليه، المتصدق سرًّا وجهرًا، العائد للمريض، المتبع للجنازة، المعين أخاه على حاجته، إلى غير ذلك من أبواب الخير الكثيرة، التي نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يحتقر شيئًا منها مهما بدا له أنه صغير.
فروى الإمام مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق". قال الألباني: أي بوجه ضاحك مستبشر، وذلك لما فيه من إيناس الأخ، ودفع الإيحاش عنه، وجبر خاطره، وبذلك يحصل التآلف بين المؤمنين. اهـ. فتفقد نفسك -أخي المسلم- بأي وجه تلقى أخاك؟!
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا نساء المسلمات: لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرْسِنَ شاةٍ"، أي لا تمتنع جارة من الصدقة والهدية لجارتها لاستقلالها واحتقارها الموجود عندها، بل تجود بما تيسر، وإن كان قليلاً كفرسن. والفرسن من البعير كالحافر من الدابة، وربما استعير في الشاة.
وروى البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه تُرجمان، فينظر أيمن منه -أي في الجانب الأيمن- فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة".
وروى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أربعون خَصلة أعلاها منيحة العنز -وهي أن يعطي الرجل أخاه العنز ليشرب من لبنها ثم يردها إليه- ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة".
وتدبر قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أعلاها منيحة العنز"، وليس أدناها، فذلك تنبيه لك لتتصور قيمة كل عمل مهما قَلَّ، فإذا كان أعلى هذه الأربعين ذلك العمل الهين عند كثير من الناس، فكيف بأدناها؟! ولكنه -صلى الله عليه وسلم- يخبرنا أن هذه الخصال الأربعين من عمل بواحدة منها -ولو بأدناها- أدخله الله بها الجنة إذا فعلها رجاء ثوابها عند الله، وتصديقًا بالوعد عليها بالجنة؛ إذ ذلك دلالة على الإيمان والإخلاص؛ إذ هذه الخصال غالبًا ما تكون خفية لا تثير التفات الناس، وغالبًا ما تكون أقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرياء، ولذا يعطي الله عليها ذلك الثواب العظيم.
ومن أعجب ما ورد في ذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق، كانت تؤذي المسلمين". وفي رواية: "مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم. فأدخل الجنة".
وأعجب منه ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أيضًا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما كلب يُطيف بركية -أي يدور حول بئر- قد كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي -أي زانية- من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها -أي خفها- فاستقت له به، فسقته، فغفر لها به".
فتأمل -أخي المسلم- هذه الأمثلة لأبواب الخير وغيرها كثير، فإنه ما عليك إلا أن تفعل هذه الأعمال ولكن رجاءَ ثوابها، وتصديقَ موعودها، واستشعارَ ذلك وأنت تعملها، فإذا أنت قد غفر الله لك، أو أدخلك الجنة.
ومن ثم فإذا حدثتك نفسك يومًا بأنك أفضل من غيرك لبراعتك في الدعوة إلى الله، واشتغالك بعمل جماعي أو نحو ذلك، ورأيت لنفسك فضلاً على غيرك، فتذكر أن العامي وقليل الحيلة القاصر في باب الدعوة ونحوها من غير تعمد ولكن لضعف طاقته؛ قد يسبقك ويفضلك بهذه الأعمال، وقد يزحزحه الله بها عن النار، وهل مراد العبد إلا هذا: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَاز) [آل عمران: 185]، وروى مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن كبر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح الله، واستغفر الله، وعزل حجرًا عن طريق الناس، أو شوكة أو عظمًا عن طريق الناس، أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر، عدد الستين والثلاثمائة، فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار".
أخي الداعي إلى الله: أذكّر نفسي وإياك مرة أخرى أن هذه الأعمال اليسيرة التي قد تكون سببًا للمغفرة أو لدخول الجنة، إنما يحصل ثوابها ويعظم أجرها بحسن نية العبد حين فعلها، وبرجائه ثوابها، وتصديقه لموعودها.
أخي المسلم: لعلك تحمد الله بعد الأكلة تأكلها، وبعد الشربة تشربها، ولكن كم مرة قلت هذه الكلمة وأنت متدبرها، مستشعر نعم الله عليك، معترفًا بها، شاكرًا للمنعم، عسى أن تجد ثواب ذلك وتحرز ما وعد الله به، وكم مرة جرت على لسانك كعادة اعتدتها دون حضور القلب أو استشعار نعمة المنعم فعلاً؟!
تنبه -أخي المسلم- إلى أنَّ حمدك الله بعد أكلة أو شربة إذا صحبه الرجاء والصدق قد يكون سببًا لرضا الله عنك، روى مسلم عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها".
فإذا كان هذا ثواب لكلمة حمد لله -عز وجل-، فما بالك بثواب صلوات وعبادات لله تعالى فيها الكثير من الحمد والذكر والدعاء والتقرب، وتذكر في كل لحظاتك قوله -عز وجل- في الحديث القدسي: "وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه".
أخي المسلم: كم قمت من الليل في أيامك القريبة الماضية؟! أو في الجمعة الماضية؟! أو في شهرك الماضي؟! وهل فعلت ذلك مع إتمام الفرائض وأدائها كما أمر بها الله؟! فإنه -عز وجل- قال في الحديث القدسي: "وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه".
هل لازمت صلاة الفجر في الجماعة، أم اعتدت صلاتها في دفء بيتك أو والشمس تسطع في السماء وقد بال الشيطان في أذنيك؟! من كان غافلاً فلينتبه، ومن كان نائمًا فليفق لنفسه وليستيقظ من نومه.
أخي المسلم: حذار أن يزين لك الشيطان التحايل، فتقول لنفسك: انشغالي بالدعوة وما يسببه لي من تعب، يعفيني من الاهتمام بقيام الليل وغيره من نوافل العبادات، فما هكذا كان شأن السلف الصالح، ولا كان ذلك هديه -صلى الله عليه وسلم-، ولا صلح حال أحد ولا يمكن أن يصلح إلا بأن يكون الرسول -صلى الله عليه وسلم- أسوته ومتبوعه، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، كان يقوم من الليل ممتثلاً أمر ربه عز وجل (قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً) [المزمل: 2]، شأنه شأن عباد الله الصالحين، (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [السجدة:16]، (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 17، 18].
ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم- محرضًا على قيام الليل، ومعظمًا له، ومبينًا لبعض فوائده: "عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى ربكم، ومغفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد". [صحيح الجامع (3958)].
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا عبد الله: لا تكن مثل فلان؛ كان يقوم من الليل فترك قيام الليل".
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: كان الرجل في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى الرؤيا قصها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتمنيت أن أرى رؤيا فأقصها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكنت غلامًا شابًا، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر -أي مبنية- وإذا لها قرنان -والمراد بهما هنا خشبتان أو بناءان- تمد عليهما الخشبة العارضة التي تعلق فيها الحديدة التي فيها البكرة، فإن كان من بناء فهما القرنان، وإن كان من خشب فهما الزرنوقان، وإذا فيها أناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار. قال: فلقينا ملكٌ آخر، فقال لي: لم تُرَع، أي لم تخف، والمعنى لا خوف عليك بعد هذا. وفي رواية: كأن اثنين أتياني أرادا أن يذهبا بي إلى النار، فتلقاهما ملك فقال: لن تراع، خليا عنه.
وظاهر هذا أنهما لم يذهبا به، ويجمع بينهما بحمل الثاني على إدخاله، فالتقدير أن يذهبا بي إلى النار فيدخلاني فيها. قال: فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل"، فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلاً.
وعن علي بن أبي طالب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طرقه وفاطمة بنت محمد -صلى الله عليه وسلم-، والطروق هو الإتيان ليلاً، فقال: ألا تصليان؟! فقلت: يا رسول الله: أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا. فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إليَّ شيئًا، ثم سمعته وهو مولي يضرب فخذه وهو يقول: (وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) [الكهف: 54].
أخي المسلم: هل أنت من الذاكرين الله كثيرًا؟! هل تداوم فعلاً على أذكار الصباح والمساء التي تعلمتها وتعلمها للناس؟! وهل تداوم على غيرها من الأذكار عند النوم أو السفر أو الدخول للمنزل أو الخروج منه أو نزول المطر أو غير ذلك من مختلف حركاتك اليومية؟! وهل امتثلت أمر الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الأحزاب: 41، 42]، (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)؟! [الرعد:28].
وذكر عبد الله بن بشر أن رجلاً قال: يا رسول الله: إن شرائع الإيمان قد كثرت عليَّ فأخبرني بشيء أتشبث به. قال: "لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله تعالى".
أخي المسلم: هل أنت ممن يحبون مجالس الذكر وحلقات العلم ودروسه، أم ممن يستثقلون ذلك ويعرضون عنه؟! عن أبي واقد الليثي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذهب واحد، قال: فوقفا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبًا، فلما فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟! أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه".
أخي المسلم الداعية: حذارِ من الغفلة عن أعظم العبادات ولبها، وهل تعلم ما ذلك؟! إنه الدعاء؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الدعاء هو العبادة"، وقد ورد الأمر به في كتاب الله مع تسميته عبادة، ومع الوعيد الشديد على من تكبر عنه، فقال -عز وجل-: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر:60].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل"، فعليكم -عباد الله- بالدعاء، ولا تكن أخي المسلم ممن لا يتذكرون الدعاء إلا عند الشدائد، فإن في ذلك شبهًا من المشركين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب، فليكثر الدعاء في الرخاء". والدعاء في الرخاء غالبًا ما يكون أنفع؛ حيث يفرغ العبد لسؤال الجنة والنجاة من النار والفتن وغير ذلك، وهي أمور فيها السعادة الأبدية للعبد، أما في الشدة فيتجه العبد بقلبه إلى طلب تفريج كروبه وتيسير أمورٍ وقعت له، وربما غفل في ذلك الحين عن سؤال الجنة والاستعاذة من النار.
وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى يسأله الملح، وحتى يسأله شسع نعله -أحد سيور النعل بين الأصبعين- إذا انقطع".
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من أحد يدعو بدعاء إلا آتاه الله ما سأل، أو كف عنه من السوء مثله، ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم". رواه أحمد عن جابر. وفي رواية له عن أبي سعيد: "أو يدخرها له في الآخرة"، قالوا: إذن نكثر. قال: "الله أكثر".
وقد أرشد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمته إلى أوقات كثيرة فاضلة يرجى منها إجابة الدعاء ليستكثروا منه فيها، ومنها: دعوة المسافر، فقد صح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم عند إفطاره، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر".
ومن الدعوات المستجابات: دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب.
ولكن لا يذهبن بك الظن إلى أن الدعاء المقصود هو تلك الكلمات السريعة التي اعتاد المرء جريانها على لسانه، وربما لم يذكر بعد دعائه بم دعا، وإنما الدعوات المستجابة ما كان معها حضور القلب، والفقر إلى الله -عز وجل-، والإلحاح دون استبطاء للإجابة، بل يوقن العبد بها ولا يستعجل؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاهٍ".
ويطول بنا الحديث -أيها الأحبة- في أمر الدعاء؛ إذ لا يمكن استيعابه في مثل هذا المقام ولكن حسبنا تذكير أنفسنا بشأن هذه العبادة العظيمة لينتبه من كان غافلاً، ويستكثر من كان ذاكرًا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أخي المسلم: كم يومًا صمت في شهرك الحالي؟! وكم مريضًا عدت؟! وكم صدقة تصدقتها؟! وكم وكم... وأين أنت من ذلك كله؟! وهل تعلم ثوابه؟!
روى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أصبح منكم اليوم صائمًا؟!"، قال أبو بكر -رضي الله عنه-: أنا. قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة؟"، قال أبو بكر -رضي الله عنه-: أنا. قال: "فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟"، قال أبو بكر -رضي الله عنه-: أنا. قال: "فمن عاد اليوم مريضًا؟!"، قال أبو بكر: أنا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة"، فهل بعد هذا الأجر العظيم من أجر؟!
ألست تبغي الجنة -أخي المسلم-؟! فها هي أسباب يسيرة، فلا يكونن لنفسك من نفسك حظ فتتخير ما تهواه من أسباب وتعرض عن الأسباب الأخرى، فإن في ذلك شبهة في صدق إرادتك الجنة بما تفعله.
أخي المسلم: هل استحضرت وأنت تعود مريضًا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خُرفة الجنة -أي روضتها- حتى يرجع"؟! وهل علمت أن الله تعالى يقول يوم القيامة: "يا ابن آدم: مرضت فلم تعدني. قال: يا رب: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟! يا ابن آدم: استطعمتك فلم تطعمني. قال: يا رب: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟! أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟! يا ابن آدم: استسقيتك فلم تسقني. قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟! قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي؟!". رواه مسلم.
وهل بلغك أن من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان، والقيراط مثل جبل أحد؟!
وهل علمت ما هو أهم من ذلك، وهو أن هذا الثواب لا يحصل لمن فعل ذلك إحراجًا أو مراعاة للتقاليد، ولكن إيمانًا بفضلها واحتسابًا لأجرها عند الله؟! فقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "من اتبع جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا وكان معه حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط".
وهل وقفت على القبور وسلمت على أهلها ورأيت فناء الدنيا وتذكرت الآخرة؟! وهل استحضرت حديث ابن عمر مرفوعًا: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعد نفسك من أهل القبور"؟! ثم قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك"؟!
أخي المسلم: هل صمت يومًا حتى أفطرت دون أن يعلم بك أحد سوى الله؟! وهل تعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من صام يومًا في سبيل الله بعَّد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا"؟! وقال -عليه الصلاة والسلام-: "في الجنة ثمانية أبواب، منها باب يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون". وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل عمل ابن آدم يضاعف: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي".
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام: أي رب: منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان". فما أحوجك أخي المسلم إلى شفاعتهما.
أخي المسلم: هل جربت يومًا أن تتصدق بصدقة خفية ولو بالقليل؟! فإن شق تمرة تصلح لاتقاء النار، ومثقال الذرة ينجي من اقتحامها، وهل تذوقت أثر ذلك وحلاوته في نفسك، وما يمنحه لك من ارتباط قوي بالله -عز وجل-؟! وهل تذكرت وأنت تمد يدك بتلك الصدقة قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه"؟!
أخي المسلم: هل تقربت إلى الله في السر أكثر مما تقربت إليه في العلن؟! أم ثقل عليك التقرب إلى الله في السر حيث لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى، هل علمت أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلى ظله: "رجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه"؟! وأنه لا تلج النارَ عينٌ بكت من خشية الله، فراجع نفسك كم تخلو بربك، وكم تناجيه، وكم تتفكر في نعمه، وكم تتفكر في صنعه وعظيم قدرته، وهل علمت أن التفكر في مخلوقات الله مع ما له من أثر عظيم على النفس وراحة وفقر إلى الله في القلب، فهو من العبادات التي تكرر الأمر بها في كتاب الله -عز وجل-: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) [يونس: 101]، (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:190، 191].
هل خلوت يومًا فنظرت إلى السماء تتأمل وتتفكر ويزداد إيمانك؟! وهل نظرت يومًا إلى الأرض وهي تزهو بالخضرة والنبات البهيج؟! (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) [الأنعام: 99].
تأمل في نبات الأرض وانظر *** إلى آثـار مـا صنع المليك
عيون مـن لجين شاخصات *** بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات *** بأن الله ليـس لـه شـريك
(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) [الغاشية: 17-21]، (وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات:21].
ثم ماذا فعلت أخي المسلم مع كتاب الله؟! كم تحفظ؟! وكم تتلو؟! وكم تتدبر؟! وماذا عملت بما تلوت وحفظت؟! قال الله -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر: 29، 30]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف".
وينبغي لك -أيها المسلم- أن تعلم أن الأعظم من ذلك حفظ القرآن، فإنه يرفع صاحبه رفعًا في الجنة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "يقال لصاحب القرآن -أي الحافظ له عن ظهر قلب-: اقرأ وارتق" -قال الألباني: بقدر ما حفظته من القرآن- "ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها".
واعلم -أخي المسلم- أن القرآن يدافع عن صاحبه، ويحج عنه يوم القيامة، بشرط أن يكون عاملاً به، عن النواس بن سمعان قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا، تقدمه سورة البقرة وآل عمران، تحاجان عن صاحبهما"، ويا له من موقف مهيب جليل، حين يأتي هذا الركب الكريم، حين يأتي أهل القرآن مع القرآن، ويتقدم ذلك الموكب سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما!! فاجهد في حفظ كتاب الله، واحذر من تضييع ما حفظت منه، وهو يضيع بالمعاصي وعدم التعهد له بالمراجعة والصلاة به آناء الليل وأطراف النهار.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت". وقال -عليه الصلاة والسلام-: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار". والآناء: الساعات.
أخي المسلم الداعي إلى الله -عز وجل-: ومن العبادات العظيمة الموصلة إلى دار السلام، التعلق بالمساجد ترددًا عليها للصلاة، ولزومًا لها بالاعتكاف، ومكوثًا فيها للذكر؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟!"، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إسباغ الوضوع على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط".
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "من صلى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة، تامة، تامة، تامة". وحسبك أنه -صلى الله عليه وسلم- ذكر في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلى ظله: "ورجل قلبه معلق بالمساجد".
وقبل أن أصل إلى الختام أذكِّر نفسي وإياك بأمر عظيم من أحب الأعمال إلى الله -عز وجل-، ومن الأبواب التي يلج منها العبد إلى الجنة، ألا وهو بر الوالدين، إحسانًا لهما، وحرصًا على هدايتهما بالدعاء لهما، وبدءًا بهما في الدعوة والإرشاد مع اللين والصبر، (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) [الشعراء: 214]، (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء: 23، 24]، (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) [لقمان: 14].
وهنا تأكيد على حق الأم لما تكبدته وتتكبده، لذا أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بلزومها برًّا وخدمة وإحسانًا، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "الزمها؛ فإن الجنة تحت أقدامها". وفي رواية: "الزم رجلها، فثم الجنة". وجعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- حقها آكد من حق الأب ثلاث مرات، حين سأله رجل: يا رسول الله: من أحق الناس بحسن صحابتي؟! قال: "أمك". قال: ثم من؟! قال: "أمك". قال: ثم من؟! قال: "أمك". قال: ثم من؟! قال: "أبوك". ولا تتوهم من ذلك أن حق الأب هين، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يجزي -أي لا يكافئ- ولد والدًا إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه". وحسبك تلك الدعوة من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالذل والهوان، ليس على من عق والديه، وإنما على من لم يبلغ من البر بهما ما يدخله الجنة، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "رَغِم أنفُ، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف -وهذا كناية عن الذل كأنه لصق بالرغام وهو التراب هوانًا- من أدرك أبويه عند الكبر -أحدهما أو كليهما- فلم يدخل الجنة"، وفي لفظ: "من أدرك أبويه أو أحدهما حيًّا ولم يدخل الجنة". فإن بر الوالدين من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، كما في الصحيحين عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم-: أي العمل أحب إلى الله تعالى؟! قال: "الصلاة على وقتها"، أي أول وقتها. قلت: ثم أي؟! قال: "بر الوالدين"، قلت: ثم أي؟! قال: "الجهاد في سبيل الله".
وختامًا -أخي المسلم- لك أن تسأل نفسك: كم خصلة من خصال الخير تعلمها لا تجدها في نفسك؟! فكم من طالب للجنة غافل عن أسبابها أو متجاهل لها، وما هي الخطة التي أعددتها لتكتسب لنفسك تلك الخصال المفقودة، هل أعددت لها (سوف)؟! رحم الله ثمامة بن بجاد إذ يقول: أنذرتكم (سوف أقوم)، (سوف أصلي)، (سوف أصوم).
نسأل الله -عز وجل- أن يعافينا من التفريط والإهمال، وأن يرزقنا التوبة إليه بعد التقصير والعصيان، وألا يجعلنا ممن اغتر بستره فتمادى في ذنبه، رزقنا الله وإياكم التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، وجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم