ناصر بن سعيد السيف
@Nabukhallad
تتعلق معوقات الدعوة المعاصرة بدراسة الأمور المعنوية والمادية التي تعترض سير الدعوة إلى الله تعالى، وهناك صعوبات كثيرة ومعوقات مختلفة تواجه الدعوة الإسلامية المعاصرة، وتتفاوت هذه الصعوبات والمعوقات من بلد لآخر من حيث القوة والضعف، والأسباب والمظاهر، وسبل العلاج، ولكن لا تكاد تخلو بيئة من معظمها.
ولايخفى على المتخصصين في المجال الدعوي أن المعوقات في الدعوة الإسلامية المعاصرة كثيرة، ولعلي أتحدث بشكل مختصر عن خمسة منها أحسب أنها عائقًا في المجال الدعوي في معظم البلاد الإسلامية، وهذه المعوقات كالتالي:
أولاً: الفوضوية في حياة الدعاة
ينبغي على الداعية ترتيب جدول أعماله وتنظيم أوقاته بما يعود عليه بالنفع في دينه ودنياه لكي تكون النتائج مثمرة في العمل الدعوي، ولكن من المؤسف أن تصبح أبرز السلبيات في العمل الدعوي ظهور الفوضوية في حياة الدعاة بشكل واضح وليس من الصواب أن نتهرب من هذه الحقيقة، بل علينا أن نعترف بها ونواجهها بكل شجاعة ونسعى لحلها بشكل مناسب، ومن مظاهر الفوضوية في حياة الدعاة:
1- الانتقاء العشوائي من الداعية في الاهتمام لمن جاء إليه، ودخل تحت سقف مسجده، دون تأمل أو تفكير عميق: هل يصلح هذا المدعو أم لا؟ إلى أي مرحلة سأصل معه؟ ومن ثم نجد من يمشي مع صاحبه سنين عدداً، ثم يصاب بالإحباط لأنه فوجئ بأن صاحبه هذا لا يمكن أن يستمر بحال.
2- سير الدعوة بدون تخطيط على الورق معناه الفوضى وعدم الانضباط، وانظر في واقعنا: لو سألت أحد الدعاة: ما المرحلة التي بلغها من تدعوه؟ لما عرف كيف يجيبك، ولو طلبت منه أن يشرح لك تصوره التفصيلي للمرحلة القادمة لما أجابك إلا بعموميات لا تفصيل فيها.
3- لا أدري ماذا أقول شعور يدل على فوضوية الداعي، فحين يكون مع المدعو في سيارة أو في مجلس تجده صامتاً لا يدري ماذا يقول؟ أو تجده يرمي الكلام على عواهنه دون وعي أو تفكير، وفي أحسن الأحوال تخطر في باله قصة أو فكرة فيقولها دون أن تكون منتظمة في إطار متناسق من الأفكار.
4- ماذا أعطيه؟ تسأل الداعية أحياناً: ماذا أعطيت المدعو ليقرأه أو ليسمعه؟ فتجد خلطاً عجيباً من العناوين، وتجد أشياء غير جيدة، وتجد أشياء لا تناسب المستوى الفكري والإيماني للمدعو، وتجد أن بعض الجوانب فيها يطغى على بعض.
5- عدم التجانس التربوي لدى الدعاة، فحين يغيب النظام وتحل الفوضوية، وعندما تتأمل في طرائق التربية فتجد أن الداعية الذي تميز في الجانب الإيماني يغترف من بضاعته للمدعو فيغرقه بالإيمانيات، أما الفكر والثقافة والمهارات العملية فتجده أبعد ما يكون عن محاولة تعلمها، فضلاً عن تلقينها لصاحبه. ([1])
ثانيًا: الرغبة في الصدارة والإمارة في الدعوة
لا غرابة في حرص أهل الدنيا على الإمارة والولايات؛ فذلك أمر تعوّده الناس منهم، حتى أفضى الأمر إلى نزاعات وخلافات ومفاسد وفتن كثيرة، ولكن الغريب أن يتسلل هذا الداء إلى داخل التجمعات الدعوية، ويسيطر على بعض النفوس المريضة، شعرت أم لم تشعر، حتى يصير همّ الواحد منهم أن يسود على بضعة أفراد، دون التفكير بتوابع ذلك وخطورته. ([2])
ومن آثار التطلع للصدارة والإمارة على الفرد والجماعة بأن كلٌ منهما مؤثر في الآخر متأثر به، وبئست الدعوة حينما تكون مغنماً وجاهاً، ينتفع فيها المرء ويتبختر، وبئس الداعية حينما يسعى لاهثاً وراء زخارف الدنيا ومتاعها الفاني، ويدل في الغالب حب الظهور والبروز على بداية الانحراف والسقوط والإخفاق، ومن تأمل وجد أن الله عز وجل يعطي الكافر والمؤمن من الدنيا لهوانها عنده، ولكنه سبحانه أغير من أن يتم أمره بالتمكين لهذا الدين في الأرض على يد أناس عندهم شوب في الإخلاص، ويحبون الرئاسة والاستعلاء في الأرض. ([3])
ويُبتلى بهذه الشهوة الخفية العلماء والعبَّاد والدعاة ونحوهم؛ وذلك أنهم منعوا أنفسهم من المعاصي والشهوات، حتى لم يعد لهم فيها مطمع، ولكن نفوس بعضهم تبحث عن بديل ومكافأة لشدة المجاهدة، فتجده في التظاهر بالصلاح والعلم والدعوة ولذة القبول عند الخلق، وتوقيرهم له واحترامهم وطاعتهم، فيهون عليها ترك المعاصي؛ لأنها وجدت لذة أعظم منها، وهذه مكيدة عظيمة؛ فقد يظن العبد نفسه مخلصاً، وأسباب الرغبة في الصدارة والإمارة كثيرة، منها:
1- ضعف الإيمان والرغبة فيما عند الله تعالى، الذي بسببه يركن هؤلاء إلى الدنيا، ويؤثرونها على الآخرة، وأشد من هذا: (فساد النيّة)، واتخاذ سبيل العلم والدعوة سُلماً لنيل الأغراض الشخصية، وما لهذا في الآخرة من نصيب، فلْيَنَلْ حظه من الدنيا!!.
2- هناك أخطاء تربوية تسهم في إشعال فتيل حب الزعامة، منها: الإكثار من مدحه والثناء عليه، أو عدم الكشف عن الطاقات الكامنة في المتربي لتوظيفها فيما يناسبها، مما يجعله يسعى لتوظيفها في هلاكه، فتحتاج إلى تهذيب وترشيد ومتابعة؛ لئلا تجمح بصاحبها.
3- التوهم بخدمة الدعوة من خلال المنصب، والظن –أحياناً-بأن الإصلاح لا يكون إلا من مصدر القوة، وسبب هذا: (عدم وضوح المنهج النبوي في الدعوة).
4- طبيعة الشخص نفسه، فقد يكون فيها من الثغرات ما يسبب مثل هذا، كالغيرة من أقرانه الذين نالوا ما يتمناه هو، أو غروره بسبب تفوقه على غيره، أو بروزه في الدعوة، أو توليه بعض المسؤوليات.
5- الظن بأن المنصب تشريف، والغفلة عن كونه تكليفاً ثقيلاً، ومسؤوليةً ضخمة، وعبئاً ثقيلاً، وهذا يتطلب من صاحبه التضحية بوقته وماله ونفسه وراحته لمصلحة الآخرين، وأن التقصير فيه خيانة للأمانة وتضييع للواجب. ([4])
وعلاج الرغبة في التطلع للصدارة وللإمارة بعد تدبر الأسباب يظهر في عدد من الخطوات، من أهمها:
1- تكثيف التربية الإيمانية؛ القائمة على الإخلاص والتجرد لله تعالى، والعمل للآخرة، والزهد في الدنيا.
2- التربية على الطاعة وهضم النفس منذ الصغر، والرضا بالموقع الذي يعمل فيه.
3- التزام الضوابط الشرعية في المدح، وتجنب مدح أحد الأقران أمام قرينه مطلقاً.
4- توضيح الأسس الشرعية لاختيار الأمير، وأنه لا يجوز طلب الإمارة، ولا الحرص عليها، وأن من طلبها لا يُوَلاّها، وإن وُلِّيها لم يُعَن عليها.
5- المصارحة والمكاشفة لمن تبدو عليه علامات الحرص، مع إحسان الظن به، فقد يكون متميزاً أو لديه مهارات فطرية، ومن ثَمّ النصيحة الفردية. ([5])
ولا ينبغي أن يفهم من هذا الموضوع إرادة قتل الطموح، وتفضيل دنو الهمة والخمول والعجز والكسل والتهرب من المسؤولية، وترك العمل، والتخاذل عن الواجبات، وفروض الكفايات، وترك اغتنام الفرص النافعة في الدعوة إلى الله تعالى، وقد جعل ابن القـيـم رحمه الله تعالى الفرق بين الأمرين كالفرق بين تعظيم أمر الله تعالى وتعظيم النفس. فالناصح لله عز وجل المعظم له يحب نصرة دينه، فلا يضره تمنيه أن يكون ذلك بسببه وأن يكون قدوة في الخير. وأما طالب الرئاسة فهو ساعٍ في حظوظ دنياه، ولذا ترتب على قصده مفاسد على الفرد والمجتمع والمجال الدعوي لا حصر لها. ([6])
ثالثًا: الترف وخطره على الدعوة والدعاة
حقيقة الترف مجاوزة حد الاعتدال بنعمة أو الإكثار من النعم التي يحصل بها الترف، وقد ورد ذكر الترف في القرآن الكريم في ثمانية مواضع كلها في موضع الذم له والتحذير منه، كما ورد العديد من الأحاديث النبوية التي ينهى بعضها عن الترف جملة وتحذر من تعلُّق القلب به، وغلو الإنسان في الانغماس في متع الحياة وملذاتها، وبعضها الآخر ينهى عن مظهر من مظاهر الترف، ويحث على تركه والانصراف عنه إلى ما هو خير في الدارين. ([7])
ومن مظاهر الترف على الدعوة والدعاة:
1- الإفراط في تناول الطعام والشراب وتوفير متطلبات النفس مما لذ وطاب، وجعل المال في الملابس الراقية، والاكتفاء بلبس الجديد والفاخر، ويبرز الترف في هذا الجانب لدى النساء.
2- صرف الأموال الكثيرة في السيارات والحرص على ضخامتها وتعددها حسب أحجامها وأنواعها، وتسليم بعضها لمراهقين يستخدمونها –غالباً-في غير ما وضعت له.
3- الاستكثار من وسائل الزينة والاعتناء الزائد بالنفس حتى إن بعضهم ليزيد إنفاقه على زينته وبعض مظاهر الترف الأخرى على دخله، مما يضطره إلى الاقتراض.
4- عدم الحرص على الطاعة والتواني عن القيام بما يقِّرب في الآخرة سواء أكان ذلك فيما يتعلق بذات الشخص أو فيما يتعلق بشؤون الدعوة.
5- تتبع أقوال أهل العلم للأخذ بالأيسر منها، ويرجع ذلك إلى أن كثرة النعم تقود إلى الدعة والراحة، وتلك تقود إلى اقتحام سبيل الشهوات والانغماس في الملذات، ولكي يزيل الحرج عن نفسه، ويدفع عنه لوم الآخرين، ويقوم بتتبع أقوال أهل العلم في الأمر الذي قرر إتيانه إلى أن يجد له عالماً في القديم أو الحديث يقول بجواز فعله، فيفرح به ويبدأ بإعلانه ونشره لا اعتقاداً بصحة ذلك القول والرغبة في إذاعته، ولكن حباً في رفع الحرج عن النفس نظراً لموافقة ذلك القول لما قد عزمت نفسه على فعله.([8])
ومن آثار الترف على الدعوة والدعاة:
1- أن المترفين من الدعاة حريصون على تقليد تجارب دعوية سابقة، وقل إن يبرز من أوساطهم قيادات دعوية جديدة تتأمل في تجارب من سبقها وتأخذ منها ما كان صالحاً في نفسه ومناسباً للمرحلة التي تمر بها الدعوة، وما لم تجده لدى السابقين كذلك اجتهدت فيه على ضوء تعاليم الشرع وفي ظل متطلبات الواقع.
2- عدم تقدم الدعوة إلى مراحل متقدمة، بل تأخرها إن لم يصل الأمر إلى انشقاقها نتيجة اختلاف الرأي بين المترفين وغير المترفين من الدعاة.
3- أن الداعية المترف أقل اهتماماً بدعوته والقيام بها من غيره، وذلك لأنه عقد همته للشهوات والتلذذ بالنعم والملذات وطلب أسباب ذلك، هذا من جهة، ومن جهة أخرى: هو عاجز عن القيام بأمور نفسه فكيف يقوم بأمور الدعوة؟.
4- أن الداعية المترف أقل إفادة للمدعوين من غيره، وذلك لأن انغماسه في النعيم وتحصيل أسبابه مانع له من التزود بالعلم الشرعي، مما يعني اكتفاءه بتقديم ما عنده من معلومات، فإذا انتهت بدأ بتكرارها.
5- الترف يدفع الدعاة إلى عدم نشر الدعوة بجدية بين كافة فئات المجتمع، كما أنه يؤدي إلى فتور المربين عن ممارسة الأعمال التربوية نظراً لمشقة ذلك على النفس وما تتطلبه العملية التربوية من وقت وجهد، وذلك ما يعجز عنه المترفون لعدم تعودهم عليه.([9])
وعلاج الترف وكيفية تجاوزه بعد تدبر الأسباب يظهر في عدد من الخطوات، من أهمها:
1- لابد للمترف من النظر في هدي السلف الصالح في التعامل مع متع الحياة وملذاتها، للأخذ منهم والسير على هديهم.
2- توجيهات عامة للمترف يمكنه القيام بها:
أ – لابد للعبد من إشغال نفسه بما يعود عليه نفعه في الآخرة، وذلك لأن النفس إذا رباها صاحبها على جعل ذلك هدفاً، تترتب الأولويات لديها فتقدم الأنفع على النافع، والنافع على ما ليس فيه نفع، وحين تفعل النفس ذلك فإنها ستتعالى عن التعلق بمتع الحياة.
ب-النظر في حال أهل الترف قديماً وحديثاً، والتأمل في أوضاعهم وما يعانيه غالبهم من غفلة، وقلة طاعة، وقسوة قلب، وكثرة هم، وتشتت فكر، بالإضافة إلى الفجيعة من تقلب الأحوال والخوف من انصرام ما هم عليه من نعيم وملذات: كفيل بردع العاقل عن التعلق بالملذات.
ج-لابد للمترف من النظر في أحوال المسلمين والتأمل في شدة ما يعانون من فقر وجهل ومرض، بالإضافة إلى ما يتعرضون له من حروب، ليعرف شدة خطئه في ترفه، وأن الأنفع له تقديم ما يفيض عن حاجته إلى إخوانه. ([10])
3- وسائل يحسن للمربين الأخذ بها للتخفيف من الترف وآثاره:
أ -تربية من في تلك المحاضن على الاستقامة والجدية، وتعويدهم على أخذ الإسلام بجدية بحيث يبادرون إلى فعل المحبوبات سواء أكانت واجبات أو مستحبات، وإلى ترك المبغوضات سواء أكانت محرمات أو مكروهات.
ب-تصريف طاقات المتربين وتوجيههم إلى حسن استثمار أوقاتهم، لأن من أبرز دواعي الترف وأسبابه ارتفاع نسبة الفراغ في أوقات الشباب، مع وجود طاقات بحاجة إلى توجيه من قبل المربين لتصريفها تصريفاً حسناً ووضعها في المسار الصحيح.
ج -لابد للمربين أن يبينوا للذين يربونهم -خاصة في المجتمعات المترفة-منهج الإسلام في التعامل مع النعم، والسعي بجد إلى ممارستهم ذلك المنهج في واقع حياتهم العملية مع متابعتهم -بأسلوب مناسب-أثناء التطبيق والممارسة من أجل رفع معنوياتهم، وتشجيعهم حال الإصابة، وتوجيههم إلى الحق حال مجانبته والوقوع في ضده. ([11])
رابعًا: الفتور الدعوي عند الدعاة
الناظر في حال دعاة الأمة يجد تقهقراً عن القيام بالواجب الدعوي وحين نتلمس الأسباب التي أدت إلى ذلك، فإننا نجد أنها ترجع إلى أمور يمكن الإشارة إلى شيء منها:
1- تصور بعضهم ضيق ميدان الدعوة وأنه محصور في خطبة على منبر أو محاضرة مرتجلة أو كلمة أمام الجماهير، وهو غير قادر على شيء من ذلك، فينصرف عن الدعوة بالكلية.
2- الصدمات التي قد يتعرض لها بعض العاملين في حقل الدعوة والمضايقات التي قد تحصل لبعض الدعاة، فربما كان سبباً في تطلب بعضهم للسلامة بزعمه، وقد وقع في العطب.
3- ميل الكثيرين إلى الكسل والبطالة أو كثرة الرحلات والمخالطات، وبعدهم عن الجدية في عموم أحوالهم وأمورهم؛ ومن ذلك أمر الدعوة إلى الله تعالى.
4- اشتغال بعضهم بالجدل والمراء في بعض القضايا الفكرية، وبعض الأطروحات المعاصرة مما شغله عن الاهتمام بالنهوض بالأمة في أعمالها وسلوكها وأخلاقها.
5- اشتغال بعضهم بالتنقيب عن عيوب الناس وخصوصاً العاملين في حقل الدعوة، وإظهار تلك العيوب ونشرها وتضخيمها، يزعم بذلك أنه محسن في ذلك قائم بأمر الدعوة. ([12])
وعلاج الفتور الدعوي عند الدعاة بعد تدبر الأسباب يظهر في عدد من الخطوات، من أهمها:
1- استشعار المسؤولية العظمى المناطة بكل مسلم تجاه دينه وأمته، وخصوصاً الدعاة الذين تربوا على الخير واغترفوا من معين الحق؛ فهم أجدر من يتصدى للنهوض بأمته ورفع الجهل عنها ورأب صدعها ومعالجة عللها وأدوائها النجاة.
2- واجب على من ولاَّهم الله تعالى أمر تعليم الأمة وتوجيهها من العلماء والدعاة أن يوجهوا الشباب إلى الانخراط في مجال العمل الإسلامي وأن يحفزوهم إلى ذلك، ويفتحوا لهم الآفاق الدعوية التي يمكنهم العمل من خلالها.
3- إدراك أن الاشتغال بالجدل والمراء مما يورث قسوة القلب والضغائن بين الناس، ويصد القلب عن الاشتغال بما ينفع العبد وينفع أمته، فليبتعد المرء عن المراء والجدال، وليشتغل بنشر الخير وتأليف القلوب على الحق.
4- التوازن في الأمور مطلب شرعي، فلا يكن اشتغالك بجانب من جوانب الخير سبباً في اشتغالك عن جوانب أخرى ربما كانت واجبة كالدعوة إلى الله تعالى، وليست العبرة في ذلك بالميول القلبية والرغبات النفسية، فالشرع هو الميزان في ترتيب الأولويات وتوزيع الواجبات.
5- مجانبة المتقاعسين والبعد عن مخالطة القاعدين؛ فالمرء على دين خليله؛ فإذا بُليت بمثل أولئك فكن معهم ببدنك لا بقلبك، ولا تكترث بتثبيطهم، واحمد الله عزوجل الذي عافاك مما ابتلاهم به، من غير أن يصيبك الإعجاب بالنفس؛ فالله تعالى هو المانُّ عليك بذلك.([13])
خامسًا: العُجْبُ وخطرهُ على الداعية
في غمرة انشغال الداعية في أعماله الدعوية، يحصل لديه –أحياناً-قصور في تزكية نفسه، ومحاسبتها، وربما تسلل إلى قلبه آفات قادحة في عمله وإخلاصه، مفسدة لقلبه، قد يشعر بها وينشغل عن علاجها، وقد لا يشعر بها أصلاً، ومن الأمراض السريعة الفتّاكة بالنية: (العُجْبُ) وهو الإحساس بالتميّز، والافتخار بالنفس، والفرح بأحوالها، وبما يصدر عنها من أقوال وأفعال، محمودة أو مذمومة. ([14])
ومما يُدخل العُجب على الداعية نظره لما منحه الله تعالى إياه من بلاغة أو فصاحة وبيان أو سعة في العلم وقوة في الرأي، فإذا انضاف إلى ذلك حديث الناس عن أعماله، وتعظيمهم له، وإقبالهم عليه ولم يسلم حينئذٍ إلا القليل. ([15])
ومن مظاهر العجب على الداعية:
1- الإكثار من الثناء على النفس ومدحها، لحاجة ولغير حاجة، تصريحاً أو تلميحاً، وقد يكون على هيئة ذم للنفس أو للآخرين، يراد به مدح النفس.
2- الحرص على تصيّد العيوب وإشاعتها، وذم الآخرين -أشخاصاً أو هيئات-والفرح بذمهم وعيبهم.
3- النفور من النصيحة، وكراهيتها، وبغض الناصحين.
4- الاعتداد بالرأي، وازدراء رأي الغير.
5- الترفع عن الحضور والمشاركة في بعض الأنشطة العلمية والدعوية، وخصوصاً العامة. ([16])
ومن مخاطر العجب وآثاره على الداعية:
1- أنه طريق إلى الغرور والكبر، وآثار الكبر المهلكة لا تخفى.
2- الحرمان من التوفيق والهداية؛ لأن الهداية إنما ينالها من أصلح قلبه وجاهد نفسه.
3- بطلان العمل، والعجز والكسل عن العمل؛ لأن المعجب يظن أنه بلغ المنتهى.
4- العقوبة العاجلة أو الآجلة، كما خسف الله بالمتبختر المعجب الأرض.
5- ومن آثاره على الدعوة: توقفها أو ضعفها وبطؤها بسبب قلة الأنصار؛ نظراً لنفور الناس، وكراهيتهم للمعجبين، وسهولة اختراق صفوف الدعاة وضربها؛ نظراً لانهيار الدعاة المعجبين حال الشدائد. ([17])
ومن أسباب العُجب عند الداعية:
1- جهل المعجب بحق ربه وقدره، وقلة علمه بأسمائه وصفاته، وضعف تعبده بها.
2- الغفلة عن حقيقة النفس، والجهل بطبيعتها وعيوبها، وإهمال محاسبتها.
ويدخل تحتهما: تجاهل النعم، ونسيان الذنوب، واستكثار الطاعات. ([18])
وعلاج العجب عند الداعية بعد تدبر الأسباب يظهر في عدد من الخطوات، من أهمها:
1- الحرص على العلم الشرعي، الذي يهذب النفوس، ويصلح القلوب، ويزيد الإيمان؛ فإن الإيمان الكامل والعجب لا يجتمعان. وتحصيل العلم النافع دليل على أن الله أراد بعبده خيراً، ومن الجوانب التي ينبغي العلم بها، والعمل بمقتضاها:
أ -العلم بأسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله، وحقه في التعظيم المورِث للخوف، الذي يطرد العجب.
ب-تذكّر فضل الله عز وجل على عبده، ونعمه المتوالية، والنظر في حال من سُلبها؛ فإن الله خلقه من العدم، وجعله إنساناً سوياً، وأمده بالنعم والأرزاق.
ج-حقيقة الدنيا والآخرة، وأن الدنيا مزرعة هدف العبد فيها مرضاة الله تعالى وهو عز وجل لا يرضيه العجب، وكذا تذكّر الموت وما يكون بعده من الأهوال التي لا ينفع فيها إلا صالح العمل، والعجب يجعله هباء منثوراً.
2- الحرص على ما يعين على تحصيل ذلك من الإقبال على كتاب الله تعالى، واستلهام الفهم منه، ومن سنة النبي ﷺ، وسيرة السلف الصالحين، ومجالسة العلماء والدعاة الصادقين، والأخذ من علومهم.
3- دور الدعاة والمربين، والذي يتمثل فيما يلي:
أ -محاسبة النفس أولاً، وتنقيتها من داء العجب والفخر.
ب-متابعة البارزين ومن يخشى عليهم العجب، من خلال: البرامج الإيمانية واللقاءات الفردية التي يذكرون فيها بمعاني الإيمان والتواضع، وأحياناً مصارحة الواحد منهم بما يصدر منه، بأسلوب مناسب، وتمكينه من معاشرة ومخالطة الصالحين، ورؤية بعض المتواضعين من إخوانه، الذين هم أكثر بروزاً في المجتمع، وإبعاده وتجنيبه صحبة المعجبين.
4- اتباع الآداب الشرعية في المدح والثناء، والتوقير والاحترام، والطاعة والانقياد.
5- النظر إلى العاملين النشيطين، والتأمل في سيرهم وحياتهم.
6- التأكيد على المسؤولية الفردية في محاسبة النفس ومتابعتها. ([19])
الفرق بين العجب بالعمل الصالح والفرح بالخير والطاعة:
كما أن العجب بالعمل يورث التواكل والتكاسل، فإن احتقار العمـل إذا لم ينضبط فإنه يورث أثراً مشابهاً وهو: (الإحباط والملل والسآمة)؛ لذا كان للعبد أن يفرح بالحسنة، ويغتبط بالطاعة، بل إن هذا دليل الإيمان، ولكن الواجب عليه في هذا الفـرح، أن يكون مستشعراً فضل الله عز وجل ومنته ورحمته وتوفيقه، مثنياً عليه بذلك، لا يرى لنفسه في الانبعاث لذلك العمل أثراً يعوّل عليه؛ إذ إن الذي منح القدرة والهداية هو الله عز وجل. ([20])
! ! !
أسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق والسداد، وأن يجعلنا جميعاً من المقبولين،
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه الفقير إلى عفو ربه القدير
ناصر بن سعيد السيف
24 صفر 1438 هـ
-----------------------------------
([1]) انظر: الفوضوية في حياة الدعاة، محمد علي، ص1-2.
([2]) انظر: مجلة البيان، عدد 90، ص 111.
([3]) انظر: خواطر في الدعوة، محمد العبده، 2/ 23
([4]) انظر: مشكلات وحلول في حقل الدعوة الإسلامية، عبدالحميد البلالي، ص 85-143.
([5]) المرجع السابق، ص 85-143.
([6]) انظر: مشكلات وحلول في حقل الدعوة الإسلامية، عبدالحميد البلالي، ص 145.
([7]) انظر: الترف، ناصر بن عمار، ص 5.
([8]) انظر: الترف وخطره على الدعوة والدعاة، فيصل البعداني، ص 5.
([9]) المرجع السابق، ص 7.
([10]) انظر: الترف وخطره على الدعوة والدعاة، فيصل البعداني، ص 9.
([11]) المرجع السابق، ص10.
([12]) انظر: الفتور الدعوي عند الشباب، عبدالله الجعيثن، ص 3.
([13]) انظر: الفتور الدعوي عند الشباب، عبدالله الجعيثن، ص 3.
([14]) انظر: آفات على الطريق، السيد محمد نوح، 1/117.
([15]) انظر: عقبات في طريق الدعاة، عبد الله علوان، 1/64.
([16]) انظر: العجب وخطره على الداعية، عبدالحكيم بلال، ص3.
([17]) انظر: العجب وخطره على الداعية، عبدالحكيم بلال، ص3.
([18]) المرجع السابق، ص4.
([19]) انظر: العجب وخطره على الداعية، عبدالحكيم بلال، ص3.
([20]) المرجع السابق، ص4.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم